روّض جيناتك
عمر غازي
التساؤل حول ما إذا كانت الجينات أقوى من التربية والتعليم والتدريب، أو العكس، هو أحد التساؤلات المركزية في علم النفس وعلم الأحياء التطوري.
يعتمد هذا التساؤل على الجدل المستمر بين تأثير “الطبيعة” والمقصود بها الجينات، و”التنشئة” التي تشمل التربية والتعليم والتجارب الحياتية.
تلعب الجينات دورًا كبيرًا في تحديد الكثير من جوانب شخصيتنا وسلوكياتنا، حيث أظهرت دراسة التوائم المتماثلة التي أجرتها جامعة مينيسوتا، والتي بدأت في عام 1979 واستمرت لعقود، أن هناك مكونات وراثية قوية للذكاء والشخصية وحتى بعض السلوكيات مثل الانطوائية أو الانفتاحية، وخلصت هذه الدراسة، التي اعتُبرت إحدى أطول وأشمل الدراسات التي أجريت على التوائم، إلى أن حوالي 50% إلى 70% من الاختلافات في الذكاء بين الأفراد يمكن أن تعزى إلى العوامل الوراثية، ولعل ما يميز هذه الدراسة هو أنها درست التوائم الذين تربوا في بيئات مختلفة تمامًا، مما عزز من مصداقية النتائج في إثبات تأثير الجينات.
من ناحية أخرى، هناك أدلة قوية على أن البيئة تلعب دورًا حاسمًا في تطوير السلوكيات والقدرات، حيث أظهرت دراسة أجريت في عام 2003 من قبل جامعة كاليفورنيا في بيركلي، درست تأثير البيئة على الأطفال الذين تربوا في ظروف اقتصادية واجتماعية صعبة، أن هؤلاء الأطفال، رغم وجودهم في بيئات غير داعمة، تمكنوا من التفوق في الدراسة والحياة بفضل الدعم النفسي والاجتماعي الذي تلقوه من مدارسهم ومعلميهم، وهو ما يدعم فكرة أن التعليم والتدريب يمكن أن يعوض إلى حد كبير عن بعض النواقص الوراثية.
في دراسة أخرى مشهورة أجرتها جامعة ستانفورد في عام 2014 بقيادة البروفيسورة كارول دويك، تم تسليط الضوء على أهمية “النمو العقلي” أو “Growth Mindset”، خلصت إلى أن الأشخاص الذين يؤمنون بأنهم يمكن أن يتحسنوا من خلال الجهد والتعلم يحققون نتائج أفضل في الحياة، بغض النظر عن قدراتهم الوراثية، حيث كارول دويك إلى أن الإيمان بالقدرات الذاتية والعزيمة القوية يمكن أن يقلب المستحيل إلى ممكن، وهذا المفهوم أدى إلى تغيرات كبيرة في كيفية تعامل المؤسسات التعليمية مع الطلاب، حيث أصبحت تركز على تعزيز الثقة بالنفس والقدرة على التغلب على الصعوبات.
التفاعل بين الجينات والبيئة يعزز من فكرة أن الطبيعة والتنشئة يتفاعلان بشكل دائم، فبحسب دراسة حول “علم الوراثة البيئية” نشرت في مجلة “Nature” عام 2012، أظهرت النتائج أن بيئات معينة يمكن أن تؤدي إلى تغييرات في التعبير الجيني، مما يعني أن تجارب الحياة يمكن أن تغير بالفعل الطريقة التي تعمل بها جيناتنا، وهذا الاكتشاف أعطى دفعة قوية لفكرة أن التعليم والتدريب يمكن أن يكون لهما تأثير طويل الأمد يتجاوز التأثيرات الجينية المباشرة.
إذا نظرنا إلى الواقع المعقد، قد يكون من الصعب تحديد أيهما “أقوى” لأن القوة الحقيقية تكمن في التفاعل بين الاثنين، فعلى سبيل المثال، الطفل الذي يرث جينات تجعله موهوبًا في الرياضيات قد لا يحقق هذا الإمكانات إذا لم يحصل على التعليم والدعم اللازمين، وفي نفس الوقت، قد يكون من الممكن لشخص ليس لديه هذه الجينات أن يحقق نجاحًا كبيرًا في الرياضيات من خلال التدريب المكثف والدراسة.
ولعل من المنطقي بعد هذا الاستعراض السريع أن نقول، إن الجينات توفر الأساس، لكن التربية والتعليم يمكن أن تبني أو تعيد تشكيل هذا الأساس بطرق لا تعد ولا تحصى، فالقوة الحقيقية تكمن في التوازن بين ما نولد به وكيف نختار أن نعيش حياتنا، مما يدل على أن الإنسان ليس محكومًا بجيناته وحدها، بل لديه القدرة على تشكيل مستقبله من خلال القرارات التي يتخذها والتجارب التي يخوضها.