طريف وساخر ومفعم بالألوان.. العالَم الرائع “لويز أندرسون”
عصام زكريا
دائمًا ما تثير أفلام المخرج الأميركي “بريطاني، سويدي الأصل” ويز أندرسون ردود فعل مختلفة حدَّ التناقض من الإعجاب حد الانبهار والهوس، إلى التعبير عن الملل وعدم القدرة على تحملها لدى البعض الآخر.
لكن ما لا يختلف فيه أحد هو أن أندرسون “المولود 1969” هو فنان استثنائي، صاحب أسلوب وبصمة لا تضاهى، وأن أفلامه، حين نضعها معًا، تُشكِّل عالمًا متناغمًا متميزًا، مهما تنوعت أنواعها الفنية وموضوعاتها ومصادرها، وأننا يمكن أن نطلق عليها “عالم ويز أندرسون”، مثلما نقول عالم كافكا، أو عالم فلليني.
أسهل شيء على من شاهد أفلامه، أو فيلمًا واحدًا فقط منها، أن يتعرف على هذا العالم، والبعض يتعرف على هذا العالم بمجرد أن يرى مشهدًا، أو ربما لقطة أو صورة فوتوغرافية من أعماله.
ولكن أصعب شيء، حتى على الذي شاهد كل أفلامه، وربما لأكثر من مرة، أن يزعم أنه أحاط بها وفهمها، وأدرك مقاصدها ومعانيها؛ إذ يبدو أن غرابة وفرادة هذه الأعمال واستعصاءها على الترويض والإيلاف من أسباب جاذبيتها، مثلما هي أسباب نفور البعض منها.
إذا كان هناك جدل حول نظرية «سينما المؤلف» film auteur، التي تبالغ أحيانًا في تقدير دور المخرج ومسؤوليته عن كل قرار واختيار في فيلمه، مهما صغر شأنه، حتى لو كان لون سيارة تمر في شارع خلال تصوير خارجي، فإن ويز أندرسون الذي يخرج ويكتب وينتج أعماله، ويمثل فيها أحيانًا، هو دليل حي على أن سينما المؤلف حية ترزق، وأن النظرية يمكن أن تطبق بحذافيرها على أعماله.
في 2023 قدم أندرسون عملين «في الواقع خمسة!» هما فيلمه الطويل «Asteroid City مدينة الكويكب»، والثاني أربعة أفلام قصيرة بدأت منصة «نتفليكس» في عرضها منذ نهاية سبتمبر الماضي.
في «مدينة الكويكب» تتبدى مجددًا ملامح عالم أندرسون المميزة: إحياء حقب تاريخية، ينتزع منها التاريخ، ويقوم بإحياء روحها وألوانها وملابسها «سئل أندرسون ذات مرة عن «حقبة تاريخية» في أعماله، فقال «هذه حقبة ويز»!». وكما فعل في «The Grand Budapest Hotel فندق بودابست الكبير» 2014 الذي اخترع فيه بلدًا أوروبيًّا شرقيًّا خلال فترة الستينيات، و«The French Dispatch الملحق الفرنسي» 2021، الذي اخترع فيه مدينة فرنسية خلال السبعينيات، يقوم في «مدينة الكويكب» باختراع مدينة أميركية خلال الخمسينيات تضم معسكرًا لإجراء تجارب على القنبلة الذرية من ناحية، وتشهد زيارات كائنات من الفضاء الخارجي، من ناحية ثانية.
أما الأفلام الأربعة القصيرة التي صنعها مع نتفليكس، فيعود من خلالها أندرسون إلى الأديب الإنجليزي رولد دال صاحب الرواية الشهيرة «تشارلي ومصنع الشيكولاتة» الذي اقتبس أندرسون من قبل أحد أعماله وهو «Fantastic Mr. Fox مستر فوكس الرائع» 2009». بالمناسبة ينتمي «مستر فوكس…» لنوع التحريك، وهو واحد من فيلمي تحريك صنعهما أندرسون. الثاني هو Isle of Dogs «جزيرة الكلاب» 2018.
اختار ويز أندرسون أربعًا من قصص رولد دال القصيرة، وهي بترتيب عرضها على نتفليكس: «The Wonderful Story of Henry Sugar» قصة هنري شوجار الرائعة، و«The Swan» البجعة، و«The Rat Catcher» صائد الفئران، و«Poison» السم.
لعل أكثر كلمة وُصِفت بها أعمال ويز أندرسون هي «غريب» eccentric، التي تعادل في اللغة العربية القديمة كلمة «طريف»، والتي عادة ما نستخدمها اليوم بمعنى «مضحك».
«الطرافة» هي أحد مفاتيح الدخول إلى عالم ويز أندرسون، وإلى عالم رولد دال أيضًا. كلاهما يصنع قصصًا غريبة طريفة، تنم عن خيال طفولي حر. وفي الأفلام الأربعة القصيرة التي اقتبسها أندرسون عن دال يصل أندرسون إلى مرحلة جديدة من التحرر الإبداعي والطرافة، ربما لإن الأفلام القصيرة، بطبيعتها، تسمح بمزيد من التجريب والمغامرة.
في أعمال سابقة لويز أندرسون كان يمكن ملاحظة تأثره بالأدب وبعض الوسائط الأخرى. كثيرون يتأثرون بالأدب، حيث تُعد الروايات والقصص والسير الذاتية مصدرًا رئيسًا للاقتباس منذ أن ظهرت السينما. ولكني أزعم أن تأثر أندرسون من نوع مختلف، نادر، وإلى حد ربما يكون غير مسبوق في السينما. هو لا يسعى إلى «ترجمة» الوسيط الأدبي إلى لغة السينما، كما يردد الخبراء دائمًا، أو إلى «دمج» أساليب سرد وتقنيات الكتابة الأدبية في أساليب وتقنيات السينما. ولكن يبدو كأنه يحاول دمج السينما نفسها داخل هذه الوسائط. وبمعنى آخر التعامل مع الوسيط السينمائي وكأنه نص أدبي.
في «الملحق الفرنسي» بنى أندرسون الفيلم على شكل ملحق مجلة منوعات، وعلى طريقة تبويب المجلة ينقسم الفيلم إلى افتتاحية وصفحة أخيرة وعدد من الموضوعات المختلفة التي لا يوجد ما يربط بينها سوى «طرافة» هذا النوع من ملاحق المجلات!
بشكل عام يمكن ملاحظة اهتمام ويز أندرسون ببناء كل فيلم من أعماله بطريقة مختلفة تتناسب مع طبيعة الوسيط أو الشكل الذي استلهم منه العمل. في «فندق بودابست الكبير» يُبنى الفيلم على شكل غرف الفنادق، حيث تختفي وراء كل باب قصص مختلفة لا تلتقي سوى في الردهة أو بهو الاستقبال!.
يقوم بناء «مدينة الكويكب» على شكل المسرحية داخل الفيلم. الفيلم نفسه مصنوع كأنه مسرحية؛ تتجاور مشاهد «الواقع» السينمائية الملونة مع مشاهد المؤلف والممثلين والمناقشات والبروفات بالأبيض والأسود، مع تعليق مذيع محطة الراديو التي تبث المسرحية، ويبدو العمل ككرة أو مكعب روبيك يختلف لونه كلما نظرت إليه من أحد الاتجاهات.
في «قصة هنري شوجار الرائعة» الذي تصل مدته إلى حوالي أربعين دقيقة، يحشد أندرسون عددًا هائلًا من الأساليب والتقنيات مثل صوت الراوي الأدبي، يظهر راف فينيس في البداية بشخصية المؤلف رولد دال نفسه، يروي القصة، ثم يسلم الخيط للشخصية الروائية «هنري شوجر» التي يلعبها بيندكت كامبرباتش، الذي يواصل روي القصة ويؤدي الشخصية في الوقت نفسه، ومنه إلى كراسة يوميات طبيب في الهند زمن الاستعمار البريطاني، يؤديها ويرويها ديف باتل، ومنه إلى رجل هندي عجيب يستطيع أن يرى وهو مغمض أو مغمى العينين، يلعبها ويحكيها بن كينجسلي، ومنه نعود إلى هنري شوجر.. بناء شبيه بالدمية الروسية «الماتريوشكا»، أو ببناء «ألف ليلة وليلة».
في الأفلام الثلاثة الأخرى، التي تصل مدة كل منها إلى نحو عشرين دقيقة فقط، يواصل أندرسون التجريب واستخدام التقنيات الأدبية وعلى رأسها صوت الراوي «رولد دال والشخصيات التي تروي بلسانه»، ولكن الراوي هنا هو الممثل نفسه، الذي يمثل ويروي وهو يتحدث للكاميرا. كذلك تتجلى بعض العناصر الفنية المرتبطة بأسلوبه عامة: مثل الشخصيات غريبة الأطوار، والعلاقات والأحداث التي تقع على حدود الواقع والمحاكاة الساخرة للواقع، التي تصل لحدود الفانتازيا. باليتة الألوان ذات التأثير الهندي الواضح: الأزرق السماوي، الأخضر الفاتح، الوردي «البينك» والتركواز «ما بين الأزرق والأخضر».
الحركات البانورامية للكاميرا عرضيًّا وأفقيًّا بشكل ظاهر ولافت للعين «على عكس ما ينصح به عادة في مدارس السينما». كسر التماهي وما يطلق عليه «الحائط الرابع»، ليس فقط من خلال الراوي الخارجي أو نظر الممثلين وحديثهم إلى الكاميرا، ولكن أيضًا الديكورات المتحركة وظهور الممثلين بشخصياتهم الحقيقية مع بقية فريق العمل من مصممي الديكور والماكياج والمصورين.. وكأنك ترى الفيلم وهو يصنع أمامك!
بالإضافة لتلك العناصر البصرية، تتسم أعمال أندرسون بسمات سردية واضحة، مثل الحقب والمدن والعوالم التي تقع بين الواقع والخيال التي أُطلق عليها «حقب ويز»، وما نطلق عليه «البطولة الجماعية»، أي وجود شخصيات رئيسة كثيرة، غالبًا ما يكون لكل منهم خط درامي مختلف. كذلك يغلب على أعماله موضوعات بعينها مثل الإحساس بالفقد والموت وعلاقة الأبناء المضطربة بالوالدين. كذلك تتسم معظم، إن لم يكن كل هذه الأعمال بروح كوميدية ساخرة، تهكمية، ومزج بطريقة «الباستيش – القص واللزق» لمؤثرات ومرجعيات فنية وأدبية من مختلف الحضارات، وبشكل خاص الهند واليابان وأوروبا القديمة، وكذلك التحرر من تقاليد السينما الهوليوودية والتجارية، منذ أفلامه الأولى مثل «Rushmore راشمور» 1998، و«The Royal Tenenbaums آل تينينباوم الملكيين» 2001، وصولًا إلى «مدينة الكويكب» ومجموعته القصيرة على نتفليكس، يحفر أندرسون كنحّات عالمَه الخاص، الذي يحمل أواصر التأثّر والشبه بأعمال وأسماء فنانين آخرين، ولكنه لا يشبه سوى “عالم ويز أندرسون”.
المصدر: سوليوود