سياسة

الفصل الخامس عشر.. “أوروبا 51”

ترجمة: سومر جباوي

بدأ ذلك العام بتحفة فنية أُسيء فهمها: “أومبرتو دي Umberto D” للمخرج “دي سيكا De Sica” وانتهى بتحفة فنية ملعونة، ألا وهي فيلم المخرج “روبرتو روسيليني Roberto Rossellini” “أوروبا 1951 Europe’51” المعروف أيضًا بإسم “الحب الأعظم The Greatest Love” من إنتاج عام 1952. وتمامًا كما اتهم النقاد “دي سيكا” بعمل ميلودراما “مشجاة”، اتهموا “روسيليني” بالانغماس في أفكار سياسية مرتبكة وحتى رجعية. لقد كانوا مخطئين في أغلب الأحيان، لأنهم أصدروا أحكامهم على الموضوع دون أن يأخذوا في اعتبارهم الأسلوب الذي يمنح الفيلم معناه وقيمته الجمالية.

تفقد امرأة شابة وثرية وطائشة ابنها الوحيد الذي يُقدم على الانتحار ذات مساء عندما تكون والدته منشغلة بحياتها الاجتماعية لدرجة أنها أرسلته إلى الفراش بدلاً من الاهتمام به. الصدمة الأخلاقية للمرأة المسكينة كانت عنيفة جدًا لدرجة أنها تغرقها في أزمة تأنيب الضمير، تحاول المرأة في البداية حلها من خلال تفرغها لقضايا إنسانية، بناءًا على نصيحة ابن عمها المثقف الشيوعي. ولكن تدريجيًا تبدأ المرأة بالشعور أن هذه المرحلة هي مرحلة مؤقتة، يجب أن تتجاوزها إذا أرادت الوصول إلى سلامها الروحي، سلام يتجاوز حدود السياسة وحتى الأخلاق الاجتماعية أو الدينية. وبناءً على ذلك، تعتني بعاهرة مريضة إلى أن تموت، ثم تساعد شاب مجرم في الهروب من الشرطة. تتسبب هذه المبادرة الأخيرة في فضيحة، وبتواطؤ كامل من عائلتها التي بدأت تشعر بالقلق من سلوكها، يقرر زوج المرأة، الذي بدأ تعاطفه معها بالتلاشي، إيداعها في مصحة نفسية. لو أنها أصبحت عضوة في الحزب الشيوعي أو حتى انضمت إلى دير مسيحي، لكان لدى المجتمع البرجوازي اعتراضات أقل على أفعالها، حيث كانت أوروبا في أوائل الخمسينيات عالمًا من الأحزاب السياسية والمنظمات الاجتماعية.

من هذا المنظور، فمن الصحيح القول أن سيناريو روسيليني لم يكن خاليًا من السذاجة، وحتى من الضعف أو الادعاء. يستطيع المرء بسهولة ملاحظة التفاصيل التي استعارها الكاتب من حياة «سيمون فيل Simone Weil»، ولكن دون أن يتمكن في الواقع من تجسيد قوة أفكارها. بالرغم من ذلك فإن هذه التحفظات لا تصمد أمام فيلم متكامل، على المرء أن يفهمه ويحكم عليه استنادًا إلى «الميزانسين» أي تنفيذه سينمائيًا. ما هي قيمة رواية «الأبله The Idiot» لـ«دوستويفسكي Dostoyevsky» إذا تم اختصارها لتشمل الحبكة فقط؟ ولأن «روسيليني» هو مخرج حقيقي، فإن بنية فيلمه لم تقتصر على زخارف السيناريو: لقد تم تشكيلها من خلال مضمون النص نفسه. يبدو أن كاتب فيلم «ألمانيا، سنة صفر» من إنتاج عام 1947، وفيه يقتل فتى نفسه أيضًا مسكون بعمق وبشكل شخصي برعب موت الأطفال، وبشكل أكبر بكثير برعب انتحارهم.

يدور الفيلم حول تجربة روحية حقيقة لبطلته مع هذا النوع من الانتحار. يظهر موضوع تقديس العلم في الفيلم بشكل فطري. إن التطور الماهر للسيناريو ليس له أهمية كبيرة هنا، ما يهم هو أن كل مشهد في هذا الفيلم هو عبارة عن نوع من التأمل أو الغناء السينمائي حول هذا الموضوع الجوهري كما يتضح من خلال «الميزانسين». إن الهدف ليس التوضيح وإنما الاستعراض. وكيف يمكننا مقاومة الحضور الروحي المؤثر للممثلة «إنغريد بيرغمان Ingrid Bergman»، وبعيدًا عن الممثلة، كيف يمكننا ألا نتأثر بـ«ميزانسين» يبدو فيه الكون منظمًا وفقًا للخطوط الروحية للقوى كما تنتظم برادة الحديد في مجال مغناطيسي. نادرًا ما يكون هناك حضور روحي في البشر وفي العالم تم التعبير عنه بهذا الوضوح المذهل.

من المؤكد أن الواقعية الجديدة لـ«روسيليني Rossellini» هنا تبدو مختلفة تمامًا بل ومتناقضة مع واقعية «دي سيكا De Sica». ومع ذلك، أعتقد أنه من الحكمة التوفيق بينهما كقطبين لنفس المدرسة الجمالية. فبينما يستكشف «دي سيكا» الواقع بفضول متزايد، يبدو أن «روسيليني Rossellini»، على العكس من ذلك، يقوم بتجريد الواقع أكثر في كل مرة، ليعيد تصويره بصرامة مؤلمة لا تعرف الهوادة، باختصار، ليعود إلى كلاسيكية التعبير الدرامي في التمثيل وكذلك في البناء السينمائي. ولكن، وبتحليل أعمق، نجد أن هذا الكلاسيكية تنبع من ثورة الواقعية الجديدة المشتركة. بالنسبة لـ«روسيليني»، كما هو الحال بالنسبة لـ«دي سيكا»، فإن الهدف هو رفض التصنيفات الخاصة بالتمثيل والتعبير الدرامي لإجبار الواقع على الكشف عن مدلوله فقط من خلال المظاهر. لا يدفع «روسيليني» ممثليه على التمثيل، لا يجعلهم يعبّرون عن هذا الشعور أو ذاك؛ إنه يجبرهم فقط على أن يكونوا بطريقة معينة أمام الكاميرا. في مثل هذا «الميزانسين»، تؤخذ مواضع الشخصيات ضمن المشهد، وطرق مشيهم، وحركاتهم في المشهد، ويكون لإيماءتهم دورًا أكبر بكثير من الأحاسيس التي يظهرونها على وجوههم، أو حتى من الكلمات التي يقولونها. بالإضافة إلى ذلك، ما هي «المشاعر» التي يمكن لإنغريد بيرغمان «التعبير» عنها؟ إن تعبيرها الدرامي يتجاوز بكثير أي تصنيف نفسي. وجهها يبرز فقط تعبير معين من المعاناة.

يعطي فيلم “أوروبا 51” إشارة واضحة بأن مثل هذه “الميزانسين” يتطلب الأسلوب الأكثر تعقيدًا على الإطلاق. إن هذا الفيلم هو النقيض التام لفيلم واقعي “مستمد من الحياة”: إنه المعادل لكتابة بسيطة ومختصرة، التي تتخلى عن الزخارف إلى درجة أنها في بعض الأحيان تميل نحو التقشف. عند هذه النقطة، تعود الواقعية الجديدة بدورة كاملة لتتجه نحو التجريد الكلاسيكي ونوعيته المعممة. ومن هنا جاءت هذه المفارقة الواضحة: أفضل نسخة من الفيلم ليست النسخة الإيطالية المدبلجة، بل النسخة الإنجليزية، التي تستخدم أكبر عدد ممكن من الأصوات الأصلية. عندما نصل إلى هذه الدرجة من الواقعية، فإن دقة الواقع الاجتماعي الخارجي تصبح غير مهمة. يمكن للأطفال في شوارع روما التحدث بالإنجليزية دون أن ندرك حتى عدم معقولية حدوث مثل هذا. وهذا هو الواقع من خلال الأسلوب، وبالتالي إعادة صياغة تقاليد الفن.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى