كُتاب الترند العربي

“الراقصة والسياسي 1”.. عن جدلية تأليف أم اقتباس!

رامي عبدالرازق

يمثل فيلم “الراقصة والسياسي” واحدة من التجارب التي من الضروري على أي متذوق للأعمال المقتبَسة عن الأدب أو الدارس الراغب في التعمق في معضلات العملية الإبداعية، أن يتوقّف أمامها كواحدٍ من النماذج التي تطرح جدلية عميقة من جدليات التركيبة التي تجمع ما بين الحبر والضوء؛ ونعني بها جدلية “التأليف أم الاقتباس”. فهذا نص سينمائي مأخوذ عن قصة قصيرة، ولكن هُدِم كاملَا وأعيد بناؤه انطلاقًا من معطيات وتفاصيل داخل القصة تبدو عادية أو عابرة، حتى لو أنه حُذِف العنوان أو تغيَّر لما تصوَّر المشاهد أو القارئ أن كلا النصين ينتميان إلى أرضية درامية مشتركة!

أول الحبر

تحتاج دراسة هذا الفيلم إلى العودة لتأمل خلفيات الصناع الذين أنجزوا التجربة بهذا القدر من النضج والزهو الإبداعي المستحق. لنبدأ من إحسان عبد القدوس “1919-1990″، صاحب النص الأدبي القصير، الذي صدرت له المجموعة التي تحمل اسم الفيلم عام 1978، واحتوت على ستة نصوص قصيرة من بينها “الراقصة والسياسي”، و”لا يزال التحقيق مستمرًا”. وهو النص الذي انشغلتْ بتحويله الممثلة المصرية نبيلة عبيد بطلة “الراقصة والسياسي” عام 1979 من اقتباس مصطفى محرم – أحد أشهر كتّاب السيناريو في مصر – إبداعًا وتفرّدًا في القدرة على اقتباس النصوص الأدبية، ومن إخراج أشرف فهمي، الذي سبق أن قدم مع محرم أولى تجاربه القوية من خلال نص مقتبس عن رواية “ليل وقضبان” في بداية السبعينيات.

وإحسان عبد القدوس هو أكثر الأدباء المصريين تعاملًا مع شاشتي السينما والتليفزيون على مدار أكثر من نصف قرن، حيث جرى اقتباس ما يزيد على 70 عملًا أدبيًّا من تأليفه ما بين روايات طويلة ومتوسطة وقصص قصيرة. وفي أكثر من مناسبة ذكرت نبيلة عبيد أن عبد القدوس هو الذي تواصل معها في منتصف السبعينيات عن طريق المنتج رمسيس نجيب، واقترح عليها أن تقدم بعضَ نصوصه الأدبية كأفلام، وكانت تقيم وقتها في لبنان وتقوم ببطولة تجارب متواضعة وتجارية دون المستوى الذي يليق بموهبتها ومشوارها الذي بدأ منذ الستينيات، وبالفعل عادت نبيلة إلى مصر وقامت بشراء وإنتاج قصة وسقطت في بحر العسل وقدمتها عام 1977 من إخراج صلاح أبو سيف، واقتباس وسيناريو تلميذته وفية خيري، وبعدها كسبت السينما المصرية 8 أفلام مهمة قدمها الثنائي إحسان / نبيلة على مدار خمسة عشر عامًا تقريبًا، ولازمهم في أغلبها الاسم الأهم في عالم الاقتباس السينمائي كما سبق وأشرنا: مصطفى محرم.

تجدر هنا الإشارة إلى أن التنافس بلغ أشده ما بين كلٍّ من نبيلة عبيد ونادية الجندي منذ نهاية السبعينيات وطوال سنوات الثمانينيات. وبينما كانت تطلق الجندي على نفسها لقب نجمة الجماهير، خلعت عبيد على نفسها شهرة نجمة مصر الأولى، ورغم أن هذا التنافس في ظاهره بدا عاديًّا أو تقليديًّا بين ممثلتين من الجيل نفسه، كل منهما لديها قاعدة جماهيرية لا بأس بها، ولكن ما يعنينا أن هذا التنافس أفرز العديدَ من الأفلام التي قُدِّمت عن نصوص أدبية طوال عشرين عامًا تقريبًا، فكانت كلتا الممثلتين منشغلة بالحصول على حقوق إنتاج قصص وروايات أدبية لأكبر وأهم الأسماء في مجال الأدب المصري، وعلى رأسهم بالطبع إحسان عبد القدوس ونجيب محفوظ الذي قدمت له نادية الجندي أكثر من قصة، أهمها “شهد الملكة” وهي أحد فصول ملحمة الحرافيش، بالإضافة إلى التعاون مع أسماء من أجيال تالية؛ أبرزها على سبيل المثال الكاتب الأكثر مبيعًا في ذلك الوقت إسماعيل ولي الدين، الذي قدمت له نبيلة مع عاطف الطيب فيلم “أبناء وقتلة” عام 1987، وقدمت له نادية الجندي مع حسام الدين مصطفى فيلم الباطنية وهو الفيلم الذي حقق لها جماهيرية كاسحة وقت ظهوره، كأول إنتاج سينمائي لزوجها فيما بعد المنتج محمد مختار.

الخلاصة في هذه الملاحظة أن هذا الفصل من تاريخ العلاقة بين الحبر والضوء أو بين الأدب والسيناريو في صناعة السينما المصرية شهد شحنة قوية من طاقات العمل على النصوص الأدبية لا تقلّ قوةً عن تلك الشحنة التي اشتعلت شرارتها منذ منتصف الخمسينيات، وطوال سنوات الستينيات والسبعينيات، بسبب منافسة نجمتين من نجوم السينما التجارية في تلك الحقبة.

إصبع العم وحيد

مثل كل أبناء جيله كانت بداية الكاتب الكبير وحيد حامد “1944-2021” محاولة للانطلاق من أرض الأدب، ولكن حين أنجز مجموعته القصصية الأولى وذهب بها إلى أستاذه يوسف إدريس، أشار له إدريس وقتها على مبنى التليفزيون المصري، وقال له إن ما تكتبه ينتمي إلى هناك، وكان يقصد أن الوسيط الأمثل بالنسبة لما يكتبه الكاتب الشاب وقتها هو الفنون السمعية والبصرية، وليست المكتوبة! ومن هنا جاءت نقطة التحول الأمثل في مشوار حامد التي شهدت تحققًا لإشارة يوسف إدريس، التي صارت ما يشبه النبوءة، وكسبت وسائط الإذاعة والسينما والتليفزيون بل المسرح قلمًا ألماسيًّا قلَّما يتكرر.

ولكن على كثرة ما أنتج الراحل الكبير، وعلى الرغم من علاقته القوية بالأدب، فإنَّ التجارب التي أنجزها فيما يخص الاقتباس هي تجارب معدودة، أهمها وأشهرها على الإطلاق تجربة «الراقصة والسياسي».

صحيح أن حامد قدَّم أفلامًا عن نصوص لنجيب محفوظ مثل “فتوات بولاق” 1981 مع يحيى العلمي المأخوذ من “حكايات حارتنا”، و”نور العيون” 1991 مع حسين كمال صاحب الرصيد الهائل في الأفلام المأخوذة عن قصص أدبية وهي رواية قصيرة غير مشهورة لصاحب نوبل، وقدم من أعمال جورج شحادة “بنات إبليس” 1984 مع علي عبد الخالق و”رغبة متوحشة” 1991 عن مسرحية “حدث في جزيرة الماعز” مع خيري بشارة، وحتى في أفلامه الأخيرة قدم “عمارة يعقوبيان” 2006 مع مروان حامد، عن الرواية الأكثر مبيعًا للأديب علاء الأسواني، و”قط وفأر” 2005 مع المخرج الشاب تامر محسن عن قصة قصيرة لعبد الرحمن فهمي، لكنّ “الراقصة والسياسي” تحديدًا يظل أشهر تجاربه في الاقتباس من الأدب، بل أكثر هذه التجارب نضجًا وقوةً وتماسُكًا ونموذجية.

ومن الغريب والطريف أن حامد لم يكن هو الاختيار الأول فما يخص التعامل سينمائيًّا مع النص، ولم يكن النص ضمن النصوص التي يمكن أن نقول إن وحيد كانت “عينه عليها” في مسألة الاقتباس –فهو لم يكن يقتبس سوى النصوص التي يشعر بأن هناك اشتباكًا كميائيًّا بينه وبينها، ولم يكن يرضى حتى في بعض الأحيان عن ما تفرزه هذه الاشتباكات ولكن على ما يبدو أن المنتج صفوت غطاس ومعه نبيلة عبيد تمكنا من استفزاز الكبرياء الإبداعي لدى الكاتب الكبير، واتهمه غطاس أنه لم يقبل تحويل القصة لأنه لا يستطيع أن يتعامل معها سينمائيًّا، فكان رد العم وحيد إنني أستطيع أن أحولها من قصة لفيلم “بإصبعي الصغير”.

ومن هنا احتشد رأسه بكامل خبرته في التعاطي مع النصوص الأدبية وعكف لمدة شهر ونصف الشهر على كتابة السيناريو السينمائي للفيلم، وأنتاج لنا نصًّا يستحق الدراسة عن حق.

الرشيق

يأتي “الراقصة والسياسي” كواحدة من تجارب معدودة في رحلة المخرج الراحل سمير سيف “1947-2019” مع النصوص السينمائية المأخوذة عن الأدب، ويمكن أن نعتبر سيف واحدًا من أرشق مخرجي جيله على مستوى الأنواع السينمائية والمغامرات التي خاضها عبر مشواره. كانت بداية سمير سيف نفسها مع الأدب من خلال استلهام القصة الشهيرة “الكونت دي مونت كريستو” في بدايته بفيلم “دائرة الانتقام” 1976 من بطولة نور الشريف من خلال معالجة ميلودرامية مثيرة وجذابة، ثم في فيلمه الثاني استهوته مسرحية الأمريكي تينسي وليامز الشهيرة “قطة على صفيح ساخن” ليقدمها عام 1977 بعنوان “قطة على نار” مع الثنائي الأشهر وقتها نور الشريف وبوسي، ثم في ثالث تعاون بينهما على مستوى الاقتباس من الأدب يقدم سيف والشريف واحدة من أفضل المعالجات التي قدمت عن فصول ملحمة “الحرافيش” لنجيب محفوظ –الحكاية الرابعة تحديدًا وهو فيلمهم الأيقوني “المطارد” 1985، ولا يفوتنا أن نشير إلى معالجته الموسيقية بالتعاون مع صلاح جاهين وسعاد حسني لأسطورة “بجماليون” في تجربتهم الجميلة “المتوحشة” عام 1979.

وأخيرًا في عام 1990 ومع الكاتب الذي جمعتهما كمياء إبداعية فائرة وحيد حامد، قدم سمير سيف لأول وآخر مرة تجربة عن نص للروائي الأكثر اقتباسًا في تاريخ السينما المصرية، من خلال سردية بصرية مغايرة لكل ما قدمه في نفس المرحلة –ما قبله “الشيطانة التي أحبتني” وما بعده “شمس الزناتي” وليصبح «الراقصة والسياسي» ومن قبله “المطارد” علامتين كاشفتين لمدى ما كان يمكن أن تصل إليه حساسية هذا المخرج الرشيق في حركته بين الأنواع، لو أنه انساق وراء استثمار النجاح الكبير للتجربة، وذهب ليبحث عن نصوص أخرى من أجل إعادة إنتاجها في الوسيط الذي كان أحد وجهائه في تلك الحقبة المهمة!

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى