فيلم “Interiors” لـ”وودي آلن”
روجر إيبرت
نيويورك.. كنت جالسًا في غرفة معيشة المخرج “وودي آلن”، في شقته العلوية المطلة على حديقة سنترال بارك، أنتظر وودي وأتأمل جوانب موهبته. قررت أنه لا يمكن أن يكون هناك العديد من الأشخاص الذين يمكنهم أداء دور البطولة في فيلم هزلي خاص بهم وإنتاج فيلم يصفه النقاد ببيرغمانيسك “مستوحى من أفلام المخرج السويدي إنغمار بيرغمان” في نفس الوقت… ثم بالطبع هناك وودي عازف كلارينيت الجاز، وجائزة الأوسكار التي فاز بها لفيلمه “Annie Hall”، والجائزة الأولى لجوائز أو هنري التي فازت بها إحدى قصصه القصيرة في نيويوركر هذا العام. كيف يمكن لرجل ناجح أن يزور طبيبًا نفسيًا؟ وكيف يمكنني الحصول على اسم طبيبه؟
كانت الغرفة واسعة وحيوية وساطعة بضوء الشمس ومليئة بالنباتات. أحاط الأثاث المنجد بطاولة قهوة خشبية ثقيلة تحمل أوعية من المكسرات والحلوى ونسخ حديثة من مجلتي New Republic وNew York Review of Books. لاحظت وجود مكتبة محفورة في أحد الجدران مما يغطي الجدار بالكتب. كما تؤدي الممرات إلى آفاق بعيدة مليئة بمزيد من الكتب. لاحظت أيضًا عدم وجود تلفزيون… ورُويت نبتة إبرة الراعي على شرفته بواحدة من علب الروي اليدوية من ماركة هاوز البريطانية والتي يُعلن عنها باستمرار في الصفحات الخلفية لمجلة The New Yorker.
فتح باب المصعد واقتحم وودي الغرفة، لاهثًا، مرتديًا زيه المعتاد، إلى حدٍ ما، مكون من سروال الجينز وقميص رياضي. لقد كان مستيقظًا منذ فجر اليوم لإخراج فيلمه التالي “Manhattan” لكنه لم يبدُ متعبًا؛ بدا وكأنه يمتلك بعض مصادر الطاقة الداخلية التي يمكن الاعتماد عليها.
سألته: «ما هو موضوع فيلمك الجديد؟». أجابني بعملية: «نفس مواضيعي القديمة»، واستطرد وهو يعدها على أصابعه: «مشاكل العلاقات ومشكلة الحفاظ على الزواج وتراجع الثقافة الأميركية والتأثير الرهيب للتلفزيون ولعنة المخدرات والوجبات السريعة وعدم قدرة الناس على السيطرة على حياتهم». سكت للحظة ثم أوضح: «الفيلم من النوع الكوميدي». صرح لي أيضًا أنه لا يزال مندهشًا من نجاح فيلمه الحالي «Interiors» الذي استمر عرضه لمدة ثلاثة أسابيع في نيويورك.
قال وهو يجلس في زاوية أريكته الكبيرة: «لقد مررت للتو بدور السينما، في الحي الثالث. لا تزال الجماهير مصطفة في انتظار دخول الفيلم. سجل فيلم «Annie Hall» الرقم القياسي في الدور، لكن فيلم «Interiors» تجاوزه طوال الأسابيع الثلاثة. إنه لأمر مدهش. كنت على استعداد لتقبل حقيقة أنه حتى لو كان الفيلم جيدًا، فلن يأتي أحد لمشاهدته، لأنه كان فيلم جادًا واعتاد الناس على الكوميديا مني. لذلك بدأنا عرضه ببساطة، وقدمنا إعلانات بسيطة، وعرضناه بقاعة صغيرة واحدة، ولكنه حقق كل هذا النجاح».
يتناول فيلم «Interiors» أزمة في حياة عائلة بها ثلاث بنات بالغات. الأب «إي جي مارشال»، وهو محام ثري، يغادر المنزل كمحاولة للانفصال عن زوجته. الأم «جيرالدين بيج»، مصممة ديكور ومصممة داخلية عصبية، توهم نفسها بأن زوجها سيعود إليها، وتحاول الانتحار. تتشاجر اثنتان من البنات «ديان كيتون وماري بيث هيرت» مع صديقيهما ويتصالحان في محاولة لفهم علاقاتهما مع الرجال. أما الابنة الثالثة «كريستين جريفيث» فهي نجمة سينمائية تزورهم من حين لآخر ولكن لا يبدو أنها تفهم ديناميكيات عائلتها.
صُور الفيلم باللون الرمادي والأزرق وليس، على حد تعبيره، كوميديًا. ويؤكد آلن أن الفيلم لا يتعلق بأعمال المخرج السويدي إنغمار بيرغمان. صرح آلن: «تم مقارنة الفيلم في نصف المراجعات بأعمال بيرغمان. هذا لأن فيلمي الجديد يحتوي على موقف مشابه نوعًا ما لجوانب من فيلمه «Cries and Whispers» وبعض أفلامه الأخرى. لكنني لن أجزم أنه بيرغمانيسك. بالطبع، أتمنى لو كان أشبه بأفلام المخرج العظيم بيرغمان. لكن الفيلم لا يحتوي على البرودة الذهنية السويدية المصحوبة بالشعور بالذنب، لكنه يحتوي على المزيد من الحيوية. ينبع الفيلم من تقاليد الدراما العائلية الأميركية بشكل أكبر. يمكنني القول إنه أشبه بأفلام بيوجين أونيل أكثر من بيرغمان».
وأضاف إن موضوعات فيلم «Interiors» أثارت اهتمامه لفترة طويلة. «لقد بدأت بفكرة الأم، كامرأة من نيويورك تتمتع بذوق وأسلوب وتربية رائعة بشكل مذهل ولا تحب الطريقة التي تسير بها الأمور بالنسبة لها. ثم تشاء الأقدار بأن ألتقي بهاتين العائلتين، عائلة يهودية في نيويورك، وعائلة غير يهودية في كاليفورنيا، وكلاهما لديهما ثلاث بنات يتنافسن بشكل هائل. جمعت خيوط الأحداث معًا وكتبت فيلم «Interiors». تبنى الفيلم شركة United Artists التي أصدرت معظم أفلامه. كان يأمل تقريباً أن يرفضوا دعم فيلمه، موضحًا: «استغرق إنتاج الفيلم عامًا كاملًا من حياتي، وكنت خائفًا من هذا الفيلم. ولكن بعد نجاح فيلم «Annie Hall»، تيقنت أنه يمكنني تقديم كوميديا أخرى أو اثنتين على نفس المنوال وسيتوجون بالنجاح. كانت نتيجة نجاح فيلم «Interiors» غير متوقعة تمامًا. استرسل آلن في حديثه قائلًا: «كانت شركة United Artists لطيفة معي للغاية. قالوا، بالتأكيد، استمر في طريقك. ربما ستصبح أفلامك الكوميدية أفضل بعد أن تُخرج فيلمًا جادًا. لذلك كنت عالقًا. كان من المغري تجربة أشياء جديدة بحذر ودون مجازفة، ولكن يمكن أن تبوء بالفشل. كان الأخوان ماركس، على سبيل المثال، عباقرة، لكنهم أدوا نفس الفيلم مرارًا وتكرارًا، بينما استمر تشارلي شابلن بتجربة أدوار جديدة في أفلامه».
قال آلن إن نجاح فيلم «Interiors» أسعده للغاية، لأنه فيلم جاد عُرض بعد صيف بدت فيه الأفلام الناجحة وكأنها تسلية بسيطة. وقال: «ماذا تعتقد؟ هل يُمكن أن يكون الناس متعطشين لفيلم جاد مرة أخرى؟». واستطرد: «كان هناك مقال في صحيفة نيويورك تايمز بشأن كيفية ثراء شركة باراماونت من إنتاج فيلم Grease وHeaven Can Wait من خلال منح الناس وقتًا ممتعًا. قال المدير التنفيذي إن أيام الافلام المأساوية قد ولت وانتهت. كم هو أحمق! إنها ميراثنا من التلفزيون. لقد تبدلت الناس، واختلفت معاييرهم… ولكن يبدو أنه لا يزال هناك أشخاص على استعداد لمشاهدة فيلم مصمم للبالغين الأذكياء».
صرح آلن أنه سيكون راضيًا جدًا إذا حقق فيلم «Interiors» إيرادات بقيمة 7 أو 8 مليون دولارًا، وهو نجاح متواضع جدًا بالنظر للمعايير الحالية، وأضاف: «مما يعني أن شركة United Artists لن تتكبد خسائر في إنتاج هذا الفيلم. تحقق أفلامي إيرادات، ولكنها ليست كثيرة. أعني، دعونا نواجه الأمر، إن جمهوري محدود».
استطرد وودي: «اعتدت القول إنه يمكنني الاعتماد على أحد أفلامي التي تحقق حوالي 10 مليون دولارًا، لذلك إذا كان بإمكاني إنتاج الفيلم بأقل من 3 مليون دولارًا، وبعد دفع جميع الأجور، سيكون لدينا ربح وفير، ويمكنني حينها إنتاج فيلم آخر. كان فيلم «Annie Hall» أول فيلم من أفلامي يحقق أعلى إيرادات، ومع ذلك، إذا نظرت إلى السجلات، فإن إيرادات فيلم «Annie Hall» كانت أقل من أي فيلم آخر فائز بجائزة الأوسكار الحديثة. انظر إلى الإيرادات التي حققها فيلم «Rocky» أو «Cuckoo’s Nest».
قال وودي إنه لا يجني الكثير من المال في أفلامه، وأضاف: «في فيلم «Interiors»، لم يكسب أي أحد مالًا. أدى الممثلون أدوارهم مقابل 40 ألف دولارًا فقط، وصدقوني، يمكن لديان كيتون جني أكثر من ذلك بكثير الآن، فهي ممثلة ذكية. ورغم ذلك، ترفض الكثير من الممثلات اللواتي يبلغن من العمر 35 عامًا لعب دور الأمهات، على سبيل المثال، فهم يريدون الأدوار البراقة. تلعب ديان دائمًا الأدوار الجيدة، الأمر الذي يؤتي ثماره على المدى الطويل». بدلاً من أن يحلم بجني الملايين من فيلم عملاق ناجح، قال آلن، إنه يعتز بالخيال الذي يُلهم به عندما يختلي بنفسه في الغابات ليكتب.
قال:«سأستمر في كتابة أو المشاركة في كتابة جميع أفلامي، هذا يجعلني كاتبًا ومخرجًا. فلا أستطيع أن أتخيل نفسي مخرجًا لسيناريو كاتب آخر، لا يمكنني أن أرى نفسي إلا كاتبًا حرًا. إذا كان كل ما أفعله هو الكتابة، فيمكنني حينها تأليف ثلاثة أعمال في السنة. مثل مسرحية وفيلم وبعض النصوص القصيرة. أشعر وكأنني أشبه الكاتب جي دي سآلنجر، أعيش في الغابة وأكتب أشياء لن تُنشر إلا بعد وفاتي. كنت أقوم بتعديل نمط حياتي إلى حياة التقشف حتى أتمكن من البقاء في الغابة إلى الأبد، وبعد ذلك». هز وودي كتفيه بالطريقة التي يتميز بها، كما لو كان يبين مدى جمال هذا الخيال، ولكنه يظل خيالًا.
سألته: «ألن تفوتك ردود الأفعال؟». أجابني: «ربما تفوتني. إنه لأمر مضحك. عندما جمعت نصوصي التي كتبتها لمجلة The New Yorker أو New Republic في كتب، تلقيت تعليقات وردود أفعال تقارب مائة أضعاف التعليقات التي تلقيتها في المجلات. بدا الأمر كما لو أنه لا يوجد من يقرأ مجلة The New Yorker، على الرغم من أنه من المستحيل أن يكون الأمر كذلك… لكن يبدو أن الناس أقلعت عن القراءة. اعتاد الجميع أن يقرأ في الماضي، لكنهم يركضون الآن. أستيقظ في الساعة 5:30، أراهم يركضون حول الحديقة. أدخل بيتي الساعة 2 صباحًا، أراهم لا زالوا يركضون».
«أنظر إلى الطلاب في الحرم الجامعي، أجدهم لا يقرؤون. عندما كنت ممثلًا كوميديًا مرتجلًا، كانت هناك أساطير حول الجماهير العظيمة لطلاب الجامعات. في الواقع، لم يكن الأمر أنهم كانوا متطورين.. بل لأنهم منفتحين وكرماء. كانوا سعداء لأنك تُمثل لهم. دعونا نواجه الأمر، في الحقيقة، معظم طلاب الجامعات اليوم لا يقرؤون. لقد نشأوا أمام شاشة التلفزيون، وهم مدمنون للأفلام ذات الموضوعات العامة».
أضاف: “وربما قد فقدنا جميعا المعنى الحقيقي للأعمال الكوميدية. هناك نظرية مفادها أن التلفزيون دمر جيلًا كاملًا من كتاب الكوميديا، لأنه مع اختراع تأثير الضحك الصوتي، لم يضطر الكتّاب أبدًا إلى اختبار نصوصهم لمعرفة ما إذا كانت مضحكة حقًا. آخر كتّاب الكوميديا الذين قدموا أعمالًا لجماهير حقيقية كانوا كتّاب برنامج Caesar، وهم ميل بروكس وكارل راينر وأنا في الفترة الأخيرة. أما ما ينتج الأعمال الكوميدية حاليًا هو تأثير الضحك الصوتي”.
استطرد وودي: «ببساطة، ما يجعل الفيلم مضحكًا هو أن يكون السيناريو مضحكًا. تؤمن الناس ببعض النظريات مثل أن الأعمال الكوميدية يجب أن تُصور في وضح النهار… لكننا صورنا فيلم Annie Hall عمليًا في الظل. أو يظنون أنه عليك تمثيل المواقف المضحكة أمام الكاميرا… لكننا لعبنا هذه الأدوار بعيدًا عن الكاميرا، أو وظهورنا لها، أو حتى خارج نطاق عدستها. المفتاح الوحيد ليكون العمل كوميديًا هو أن يكون النص مضحكًا. قد يتمكن عدد قليل من المخرجين الكبار، كفيليني أو ألتمان، من إخراج سيناريو سيء بشكل جيد. ولا يمكن لغيرهم فعل ذلك».
بدأت الشمس في الغروب بالخارج فوق برج سنترال بارك، ونفذت روائح العشاء الذي تُعده مدبرة منزل وودي في المطبخ أسفل البهو لتصل إلى أنوفنا. نهض وودي ليشعل الإضاءة ويتأمل في الحديقة.
قال وودي: «أحب الأيام التي تكون فيها السماء ملبدة بالغيوم. أعرف ما كان يعنيه بيرغمان عندما ذهب إلى كاليفورنيا ثم غادرها لأن اليوم كان مشمسًا جدًا. لم أستطع أبدًا العمل بشكل دائم في لوس أنجلوس بسبب شمسها الساطعة في معظم الأيام. عندما تكون السماء صافية والشمس مشرقة، تنتابني الرغبة في الاختباء. أما إذا استيقظت يومًا وكانت السماء ملبدة بالغيوم وتتساقط أمطار خفيفة، تنتابني السعادة العارمة.. أظنني مجنونًا. كانت بولين كايل هنا تخبرني بما أعجبها وما لم يعجبها في فيلم “Interiors”. أخبرتني بعدم اعجابها بانشغالي بفكرة الموت. إنها تحب الأفلام القوية، تلك التي تتبنى سلسلة الحساسية الأميركية، أي الطاقة والحكمة والحيوية”. “في الحقيقة، أنا شخص متردد جدًا. ربما كان أحد الأسباب التي جعلتني أرغب في إنتاج فيلم “Interiors” هو أنني أستطيع التعامل مع أشياء خطيرة. من الصعب التعامل مع القضايا الخطيرة في الكوميديا. كل ما يمكنك فعله هو مواجهتهم. باستثناء فيلم City Lights لشابلن، بالطبع، والذي ناقش كل ما قد يدور في خلدك عن نوع معين من الحب الجاد”.
يبدو أنه قد حان وقت الذهاب. كان وودي ذاهبًا لتناول عشاءه، ثم كان من المقرر أن يأتي طبيبه النفسي للزيارة اليومية. وبعد ذلك سيخلد إلى النوم ليستيقظ مرة أخرى عند بزوغ الفجر، على أمل في قدوم يوم جديد بسماء ملبدة بالغيوم، ويوم آخر من التصوير لفيلم «Manhattan».
وقال: “ما يدفعني إلى الجنون هو إضراب الصحف عن العمل. لا يُمكنني أبدًا أتناول وجبة الإفطار دون قراءة صحيفة، كما لا يمكنني تخطي وجبة الإفطار، لذلك أنا أعاني من هذه مشكلة حاليًا”. بدا الآن مثل وودي آلن الذي يظهر في فيلم “Annie Hall”، الذي أخبر ديان كيتون بجرأة ألا تقلق، لقد كان يقتل العناكب منذ أن كان في الثلاثين من عمره. قال: “يمكنك أن ترى ما أواجه من صعاب”.
المصدر: سوليوود