آراء

هذا ما فعله بنا زوكربيرج يا عم نجيب

سارة حازم طه

يُخبرنى هاتفى المحمول أننى أقضى ساعتين يومياً على مواقع التواصل الاجتماعى، وأُفاجأ بهذا الوقت المستهلك لأننى فى الكثير من الأحيان أتصفح هذه المواقع وأنا أفعل شيئاً آخر، أى أننى لا أقضى كل هذا الوقت وأنا منتبهة تماماً، فقد أتصفح التعليقات على الأخبار أو التريندز وأنا أتناول طعامى أو أتحدث مع أصدقائى، وأشاهد الفيديوهات القصيرة استعداداً للنوم، فهل يُعقل أن تكون هذه الدقائق السريعة ساعات!

المفزع أكثر أن هذا الأسبوع، وتحديداً فى الرابع من فبراير، أتم موقع التواصل الاجتماعى فيس بوك عشرين عاماً بالتمام والكمال على وجوده وتوغله فى حياتنا اليومية، أى أن هذه الساعات المستهلكة التى ظننت أنها دقائق سرقت منى ما يقارب العشرين عاماً.

‏‎فى عصر ما قبل مواقع التواصل الاجتماعى كانت الكتب هى ملاذى الوحيد، أنتظر إجازة نصف العام بفارغ الصبر لأتجول فى معرض الكتاب بين أجنحة دور النشر المختلفة، أتصفح الكتب وأحدد قائمتى التى سأنفق عليها كل ثروتى، فهذه الكتب ذخيرتى حتى معرض العام القادم. وأعتقد أننى بنسبة كبيرة كنت أنجح فى الانتهاء من قراءتها كلها. ولكن على ما يبدو أن التواصل الاجتماعى -بجانب تصفح المواقع الإخبارية- تسلل دون أن أشعر، لأجد كتباً تتراكم علىّ قبل أن أنجح فى إنهائها. ولكن ليس هذا هو التأثير الوحيد، فعالم التواصل الاجتماعى خلق أيضاً عالماً للكتب ومحبيها، وأصبح لدينا صانعو محتوى متخصصون فى عرض عناوين بعينها لتصبح الأكثر رواجاً والأكثر شراءً والأكثر قراءة، ولهذا تجد فى المكتبات الكبرى حول العالم قسماً مخصصاً لترشيحات “التيك توك” بالرغم من أنها قد لا تتعدى “التريند” الذى ينتهى مع الوقت لأنها قد لا تكون الأكثر أهمية أو الأكثر عمقاً.

‏‎تذكرت حفل الجائزة العالمية للرواية العربية عام ٢٠١٧ حيث قالت رئيسة لجنة التحكيم وقتها الروائية سحر خليفة «أبناء الجيل الجديد من الكُتاب يكتبون أكثر بكثير مما يقرأون بدليل أن كتاباتهم لا تشير إلى نضج وتخمر فى المعرفة، وصقل وتمرس للموهبة، وهو النتاج الطبيعى للقراءة والتخمر والاستيعاب، بل تشير إلى اندفاع شبه غريزى للتعبير عن النفس فى مجتمع لا يشجع على التعبير الفردى والجماعى، السياسى والاجتماعى والجنسى. وربما هذا التعبير الذى قُصد به أن يتخذ شكلاً روائياً غير مكتمل النضج هو شكل من أشكال الثورة على القيود، وعلى التقليد، شجعتها ودربتها وسائل التواصل الاجتماعى، حيث بات كل مشترك كاتباً وناشراً وناقداً فى الوقت نفسه، متجاوزاً كل الشروط اللغوية والفكرية والمعرفية».

‏‎وقد لا أجد الأمر سلبياً أن يكتب الجميع، ولكن ما قالته خليفة يستحق أن يؤخذ بعين الاعتبار، وخاصة أنه يوضح لنا السبب وراء وجود جمهور جديد فى معرض الكتاب فى السنوات الأخيرة. جمهور جاء لشراء العناوين التى شاهد فيديوهات تتحدث عنها وترشحها على تيك توك، أو جاء ليحصل على توقيع من صانع محتوى يتابعه عبر شاشة التليفون وأصبح لديه كتاب.

‏‎وبالرغم من الإقبال على الشراء فإننا نحتاج لإحصائيات أكثر دقة ترصد ما إذا كان الشباب قرأ هذه الكتب بالفعل، أم أن هذه الكتب لا تتعدى الأدوات التى تجعل “الصورة حلوة” على مواقع التواصل الاجتماعى.

‏‎أعود لتراثنا الثقافى الذى أجد فيه دائماً استشرافاً للحاضر، فى عام ١٩٨٣ يسأل الإذاعى القدير “عمر بطيشة” ضيفه الأديب “نجيب محفوظ” فى برنامجه الأشهر “شاهد على العصر»: «هل توجد لدينا بالفعل أزمة فى الثقافة؟”، ليرد محفوظ بحسم أننا “نعانى من أزمة عالمية بجانب أسباب محلية ضاعفت الأثر، فوسائل الثقافة عالمياً تتغير، فبعدما كانت قاصرة على الكلمة المكتوبة ظهرت وسائل جديدة كالإذاعة والتليفزيون ليتحول قراء الكلمة لمشاهدين”، ويضيف محفوظ أن “الوسيلة لا تهم إذا ضمنا نوعية الثقافة، ولكن أيضاً التعليم لا يساعد الأجيال الجديدة على تلقى الثقافة الجادة”، كما كان ذلك فى وقته، وبجانب غلاء سعر الكتاب الذى أصبح عقبة أخرى أمام القارئ.

‏‎حوار مر عليه أربعون عاماً، ولكنك تستمع إليه وكأنه أُجرى اليوم، فأزمة الثقافة والتعليم ما زالت “محلك سر”، ولكن آه يا عم نجيب لو عرفت أيضاً ما الذى فعله بنا زوكربيرج وإخوته!

‏‎مع كل ما سبق، يُنهى معرض الكتاب دورته الخامسة والخمسين.. هذا العدد من الدورات وهذه الاستمرارية فى حد ذاتها مبعثٌ للسعادة، فهذا الملتقى يتحدى ويبقى حياً يتنفس بقوته الناعمة ومثقفيه وأدبائه الشباب الذين يقدمون أدباً ومعرفةً حقيقية بجانب إرث معرفى وأدبى متراكم لا ينضب، ويظل أيضاً يستقطب المثقفين من كل أنحاء الوطن العربى رغم أنف مواقع التواصل الاجتماعى.

المصدر: الوطن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى