علاقة عكسية: بين شخصيتي دانيال بلينفيو وهانز لاندا
ريما التويجري
بدأت السينما بمسمى «الصامتة» لعدم وجود التقنية الكافية لإضافة الصوتيات، حتى بعدما اُستخدم الفونوغراف في السينما لأول مرة في أواخر العشرينيات من القرن الماضي، تجنبها بعض المخرجين، إمَّا بسبب التحديات التِقنيّة لبدائية الصناعة، أو لخوف صانعي الأفلام أن تتحول السينما إلى نثرية -سردية بحتة كالمسارح.
على الرغم من انحياز المخرجة مايا ديرين إلى أن الفيلم فن بصري قبل أن يكون فنًا قصصيًا، أكدت أن اللغة المنطوقة تزيد القيمة البصرية، ولا تناقضها. كما ذكرت أن: «الكلمات ستكون زائدة عن الحاجة في الفيلم إذا تم استخدامها كإسقاط إضافي يشرح الصورة، لكن إذا تم التعامل مع الكلمات على مستوى مختلف وليس إصدارها من الصورة التي يجب أن تكون كاملة في حد ذاتها، بل كبعد آخر متصل بها؛ فعندئذٍ يمكن للأمرين معًا أن يصنعا القصيدة السينمائية».
Maya Deren
ومن الجدير بالذكر، أن الصوت أتاح في بدايات دخوله للسينما الاستغناء عن العناوين الفرعية، والشروحات التوضيحية المكتوبة «Intertitles» التي كان يعتمد عليها بشكل كبير آنذاك.
أما في الوقت الحالي، فالسكوت والتكّلم، يعدان أسلوبين فنيين شديدي الأهمية بين يدي المخرج، لبث إشارات غير مرئية تمنحنا الوصول والتنبؤ بأفكار الشخصية المعروضة، وحالته المزاجية، وقوته أو ضعفه، وذكائه أو عدمه، والكثير.
مثلما نجد في فيلم There Will Be Blood 2007 للمخرج Paul Thomas Anderson الذي أحسن استخدام هذه الآلية باختيارهِ للصمت السردي «Narrative silence» في افتتاحية فيلمه ولمدة أربع عشرة دقيقة خالية من أي حوار؛ حيث عَّرف فيها عالم الفيلم، مع وجهة نظر كاملة لشخصية دانيال بلينفيو «دانيال داي لويس»، وأجواء القصة، دون نطق كلمة واحدة.
بعد الافتتاح، تم استخدام الصمت أيضًا في جميع أجزاء الفيلم لتعزيز الشعور بالوحدة، سواءً كان ذلك اجتماعيًا أو جغرافيًا، من خلال الصور البانورامية الممتدة للمناظر الطبيعية.
وفي المشهد الختامي، تعمد بول توماس أندرسون بأن يكون مشهدًا طويلاً يحركه الحوار، كنوع من المعارضة للافتتاح الصامت، ودليلاً على انهيار الشخصية وضعفها، مما يجعلنا ندرك أن الصمت هو دفاع دانيال؛ ملجؤه، ومجلسه، وقوته.
Daniel Plainview
وعلى النقيض، نستطيع أن نشعر بقيمة الحديث في فيلم Inglourious Basterds 2009 للمخرج الكبير كوينتين تارانتينو، مما جعل من الكلمات شكلًا من أشكال الرهبة والقوة القاهرة؛ حيث استفتح الفيلم بحوار تصاعد معه التوتر والتركيز، معاكسًا للصمت الذي جاء قالبًا للضعف.
فكما نرى شخصية العقيد النازي هانز لاندا «كريستوف والتز (في أغلب مشاهده، هو الذي يبدأ وينهي ويسيطر على الحوار، مما خلق لنا مشاعر مرعبة تجاهه.
وفي الجزء النهائي من الفيلم جاءت شوشانا دريفوس – إمانويل ميميو «ميلاني لوران) صاحبة سينما يهودية قُتلت عائلتها، فقَتلت أكبر عدد ممكن من النازيين، بإحراق دار السينما، وأنهت خطتها برسالة قاهرة، وضحكة انتصار.
Shosanna Dreyfus
في نهاية الأمر، الفيلم فن يختزل، ويوجز، ويكثف، فما لغتا الصمت والكلمة إلا فرشاة تلوين بيد صانعه، حتى يستطيع عندها أن يخلق شعورًا ما، أيًا كان.