بنات ألفة.. إعادة تجسيد المأساة
محمد عبدالرحمن
ربما هي مفاجأة لمن لم يشاهد الفيلم أن يصل شريط تونسي للقائمة القصيرة في سباق الأوسكار رقم 96، ليست مفاجأة فقط، بل خبر سعيد لمن يتمنى صعود السينما التونسية والعربية عمومًا، لكن لمن شاهد «بنات ألفة» الوضع يختلف؛ لأن الاختيار لن يكون مفاجأة على الإطلاق، فشريط كوثر بن هنية الجديد يستحق الوصول إلى الـtop5، ولو فاز بإحدى الجائزتين «أفضل وثائقي وأفضل فيلم عالمي»، فستكون الجائزة مستحقة بعيدًا عن أي جدل يصاحب حاليًا كل الأفلام العربية التي تصل إلى منصات عالمية كونها متهمة مسبقًا بأنها تداعب الشروط الغربية من حيث القضية والمحتوى.
فيلم «بنات ألفة» هو واحد من أبرز الأفلام العربية في السنوات الأخيرة، ليس فقط على مستوى المضمون، وإنما الشكل أيضًا الذي يؤكد أن كوثر بن هنية اسم سيبرز طويلًا في سجل السينما العربية إذا استمرت في التجريب شكلًا، وعمق الطرح موضوعًا، ومن يضع هذا الفيلم مع سابقه «الرجل الذي باع ظهره» يدرك أننا أمام مخرجة مهمومة بمعاناة الإنسان الفرد الذي يتأثر إلى أقصى حد بمتغيرات السياسة وإن لم يشعر به السياسيون، سواء كان الإنسان لاجئًا سوريًا في الفيلم الأول، أو أسرة تونسية مكونة من أم و4 بنات في فيلمها الذي ذهب بعيدًا في الأوسكار «بنات ألفة».
الفيلم الذي حاز، مؤخرًا، جائزة أفضل شريط وثائقي في سباق الدورة الثالثة لمهرجان البحر الأحمر بجدة، مرشح أيضًا لجائزة أفضل فيلم عالمي في سباق الأوسكار بجانب سباق الوثائقيات. ومن هذا الخلط تبرز نقطة القوة الأساسية في الفيلم، حيث قدمت بن هنية شريطًا متعدد التصنيفات يربك مبرمجي المهرجانات، لكنه لا يفعل ذلك مع الجمهور الذي سيتخطى سريعًا سؤال ما إذا كان الفيلم وثائقيًا أم روائيًا، وسيتعايش بصدق مع مأساة العائلة التي أعادت كوثر بن هنية تجسيدها بتقنية ستحسب باسمها لاحقًا على الأقل في السوق العربية.
إعادة تجسيد المشاهد الحقيقية في فيلم وثائقي؛ أي الـDocudrama، عبارة عن الاستماع لشهادات الشخصيات الحقيقية، ثم نرى بعض المواقف مجسدة من خلال ممثلين قريبين في الشكل من الشخصيات الأصلية، وعادة ما تكون المشاهد الدرامية بدون صوت وتُغطى بالتعليق المسجل للشخصية الحقيقية. في «بنات ألفة» ذهبت المخرجة لما هو أبعد من ذلك، حيث خلطت بين الحقيقي والمتخيل، بين الحكايات المروية من الأبطال الأصليين وبين ردود الفعل من الممثلين المحترفين، بأسلوب امتلأ أيضًا بالتفاصيل الجذابة مثل أن تكلف الممثل «مجد مستورة» بأن يقوم بكل أدوار الرجال في الفيلم: الزوج الأول لألفة، والعشيق، وضابط البوليس، وغيرها من الشخصيات في إشارة إلى الدور السلبي للرجل عمومًا في حياة الأم وبناتها. فيما كانت الإضافة الأهم في وجود نجمة كهند صبري لتجسد شخصية «ألفة» في العديد من المشاهد، لنرى الشخصيتين «ألفة الأم – ألفة الممثلة» معًا في نفس الكادر، إحداهما تحكي والأخرى تحفظ وتتدرب. لكن أهم ما لفت نظري اختفاء هند التدريجي في الثلث الأخير من الفيلم، وهو أمر لم أفسره إلا بأن الأم الحقيقية لم تعد تخشى الكاميرا ونجحت في إعادة تجسيد مأساتها وكأن هند صبري التي يجب تحيتها على هذه التجربة كانت بمثابة «مدربة تمثيل» لها، وهو الأمر الذي ينطبق أيضًا على الممثلتين نور القروي وإشراق مطر، فمع تتابع المشاهد لن تستطيع أن تفرقهما عن الأختين الحقيقيتين آية وتيسير الحمروني.
كسرت بن هنية حاجز الإيهام وجعلت المتفرج يعيش داخل المأساة، متتبعة قصة الأم من البداية حيث النشأة الصعبة بدون حماية، ثم الزواج بدون حب، وإنجاب 4 بنات ومحاولة الاستقلال عن الأب بعد ثورة الياسمين، ثم دخول رجل جديد في حياتها وما فعله مع البنات، ثم وصول الفتيات للسن الحرج حيث الحيرة بين الانطلاق والانغلاق، وصولًا لخضوع الكبيرتين، غفران ورحمة لإغراءات تنظيم «داعش» في ليبيا، ودخولهما السجن الذي دخلته كاميرا بن هنية لتنجح في توثيق الحفيدة «فاطمة» التي ينتهي الفيلم على أمل استعادتها وأمها وخالتها في تونس من جديد ليجتمع شمل «بنات ألفة»؛ كل ذلك مع الاستعانة ببعض اللقطات الأرشيفية التي تكمل السرد وتختصر التحولات التي مرت على الأسرة من خلال إيقاع متماسك وصدقية عالية تجعل المتفرج – حتى من يعاني من حاجز اللهجة – قادرًا على التفهم والتفاعل والتعاطف مع السيدة التي جسدت مأساتها ما عاشته سيدات عربيات كثيرات بسبب الفقر والجهل وعجز الرجال، ثم دخول التنظيمات الإرهابية على الخط لإفساد أي محاولات للنجاة.
«بنات ألفة» يمكنني اعتباره أهم عمل فني عن تأثير تلك التنظيمات على حياتنا المعاصرة رغم أن الداعشيين لم يظهروا إلا لمامًا، لكن تأثيرهم والحكومات التي أدارت تونس قبل وبعد الثورة دمر أسرة كاملة، لكنها لا تزال قادرة على الحياة والصمود على أمل استعادة الغائبات الثلاثة، وهو الأمل الذي ظهر جليًا في يوميات التصوير، حيث لا كواليس، الكل طبيعي أمام الكاميرا بما في ذلك الممثلون المحترفون تحت إدارة كوثر بن هنية.