مشكلة الحوار السينمائي
د. عبدالرحمن أبوشال
يتجلى لمشاهد السينما السعودية أن هناك أزمة حوار، وهي ليست كذلك. معالجة الحوار والبحث عن طرق لتطويره لن تفيد ما لم تعالج الإشكالية الأساسية، ألا وهي نضج الشخصيات. إذا نظرنا إلى مكونات القصة الأساسية، فلن نجد الحوار ضروريًا فيها؛ أي أن المخيلة باستطاعتها نسج قصة تدور أحداثها لشهور وسنين دون الحاجة إلى النطق بكلمة. وكثافة الحوار في أي قصة ليست معيارًا أساسيًا، بل هي فرع من فروع الأصل، وهو الشخصية التي تؤدي أدوارًا بالقصة، والحوار يندرج ضمن أفعال الشخصية.
الحوار في القصص عمومًا، وفي الأفلام خصوصًا، ليس إلا فعلًا تقوم به الشخصية في تفاعلها مع الأحداث، فهي أولًا إما تكون مخيرة أو مضطرة، والمشاهد يعي مدى ضرورة اتخاذ القرار بحسب الظروف التي تفرضها الأحداث على الشخصية، ويعي ثانيًا أن لهذه الأفعال عواقب لا بد للشخصية من تقديرها، فتكون إما إيجابية أو سلبية. ويعي أيضًا أن تقدير جودة الأفعال التي تقررها الشخصية تكون بقدر علمها وذكائها، وهذا أمر ثالث في تقييم الفعل. وأخيرًا، بما أن الشخصية هي تمثيل للإنسان في القصة، فلا بد لها أن تتأثر وتؤثر عاطفيًا، ومن هنا ينشأ الصراع بين العقل والعاطفة في اتخاذ القرار، والعاطفة هنا هي المؤثر الأهم في اتخاذ القرار لفعل أمر ما، ومن ذلك الأقوال التي تجري على لسان الشخصية.
دائمًا ما يشيد النقاد بالحوار في أفلام كوينتن تارانتينو، وفي حقيقة الأمر هو أن عبقرية تارانتينو تكمن في خلق شخصيات متميزة ومتكاملة في بشريتها. فهي مفعمة بالعاطفة وعلى قدر من الذكاء “والغباء كذلك” يجعلها مستقلة في ردود أفعالها. فهي لا تملأ الفراغ فقط لتطور القصة، بل إنها تؤدي دورًا تفاعليًا حتى لو كانت ثانوية. ومن شدة استقلاليتها في اتخاذ قراراتها والتصرف بما يتسق مع رغباتها، يحصل الصراع بين الشخصيات؛ لأن تعارض الدوافع العاطفية يؤدي إلى التوتر، وعدم إدراك عاطفة الطرف الآخر، وفي بعض الأحيان شدة وضوحها، تدفع الشخصية للتحاور حسب ما يقتضي الحال.
نضج الشخصية في القصص لا يعني أن تكون مثالية أخلاقيًا، بل أقصد بذلك أن تكون متكاملة الجوانب الإنسانية الذهنية والعاطفية حتى تعطي المشاهد تصورًا أنها بالفعل “حقيقية”، وهذا التصور سمة ضرورية للقصة المؤثرة بالعموم، وتسمى هذه الظاهرة “مظهر الحقيقة” أو Verisimilitude، وحين تتحقق في الشخصية، فهي تدفع المشاهد للتعرف عليها، وتتضح عاطفتها وذكاؤها ونواياها خلف أفعالها أو أقوالها، ويحصل التماهي؛ Identification نتيجة معرفة “ماهية” هذه الشخصية، فيكون الارتباط العميق بها وتفهم حواراتها نتيجة هذه العلاقة بين الشخصية والمشاهد.
في حال عولجت الشخصيات، صار من الممكن معالجة الحوار، حيث لا بد أن يكشف عما يجول في ذهن الشخصية من عصف الأفكار وامتزاجها بالعاطفة. وحين يستحضر الكاتب والمخرج ضرورة المحافظة على مظهر الحقيقة في العمل السينمائي، لا بد لهم أن يستحضروا طيف الأساليب المتنوعة في الحديث الذي يدور بين الناس في الواقع، وتكون هي الضابط لحوارات الشخصيات، تمامًا كأفعالهم.