الذاكرة السينمائية
عبدالرحمن الأنصاري
تذهب الريح بهشاشة الأشياء ويبقى عالقًا في ذاكرة التاريخ كل نفيسٍ؛ هذه سنة الحياة، لا تُعطي بغير عدل ولا تمنح لمن دون قدرها، وترفع من شأن الثمين وتحط من قدر المتواضع في تأثيره، وفي مقدمة الأشياء بضاعة السينما التي تُعرض على الأذواق العامة، فيقبل الجمهور منها ما يستحق البقاء، ويركل الضعيف فنيًا إلى ذاكرة النسيان.
على مدار التاريخ أنتج القائمون على صناعة السينما آلاف الأفلام والدراميات، بقي منها فقط القليل عالقًا في الأذهان، يُعاد مشاهدتها باستمرار، لدرجة أن أفلامًا معينة على غرار «تيتانيك» مثلاً، عندما يُعاد عرضه تجاريًا فإنه يحقق من الإيرادات ما يفوق أفلامًا حديثة تنافس في شباك التذاكر، محققًا 60 مليون دولار في غضون أيام بعد إعادة عرضه بدور السينما حول العالم بمرور 25 عامًا على طرحه أول مرة.
على أن شباك التذاكر فقط ليس معيارًا لبقاء الفيلم، فلا نزال نتذكر أفلامًا حققت نجاحات تجارية ولم يتبقَّ منها غير الأرقام، في المقابل فشلت أفلام أخرى في شباك التذاكر، لكنها أصبحت من أهم كلاسيكيات السينما على مدار التاريخ.
علينا أن نُسلّم بأمر بديهي مفاداه أن صناعة السينما لا تضع حدودًا فاصلة بين الفيلم الفائز والآخر الخاسر على مستوى الجودة، ولكن ثمة أعمالًا فنية نجحت في تحريك مشاعر المشاهدين، حتى وإن استطاع الفيلم استقطاب ألف مشاهد بمشاعرهم وعاطفتهم المتفاعلة مع العمل الفني.
تترك السينما تأثيرات عميقة لدى المشاهدين، تربطهم بأبطالها، وتصنع من القصص والروايات الدرامية مناسبات خالدة في الأذهان، بالمستوى نفسه الذي تجسِّده لدى حواس المتابعين؛ ولذلك يبقى التركيز على الجودة بدلاً من الكم، أمرًا بالغ الأهمية للانتقال بصناعة السينما المحلية من الاستهلاك الوقتي إلى الذاكرة التاريخية التي تبقى في خزينة الجمهور.
مما سبق، أستطيع الجزم بأن صناعة السينما هي في حقيقتها وماهيتها صناعة الإبداع الذي يبقى ما بقي الإنسان، أو تذهب غثاؤها مع أول منتجٍ جديد تُفرزه الساحة. في المقابل تخلق الأفلام الباقية في الذاكرة قوة تأثير اجتماعي يُشكّل ظاهرة اجتماعية في حد ذاتها، تجعلها سيرة خالدة في مجالس النقاد وتقييمات المحللين، فضلاً عن جلسات سمر الجمهور، فتسقط الحدود بين تفاصيل العمل الجيد وبين الجمهور المستمتع بالقصة وتمثيلها وإخراجها.
العامل المؤثر في صناعة الأفلام الخالدة، هو الكاتب المتخصص في اتجاهات الجمهور وتفضيلاتهم، وهو ما يؤهله لاختيار قصص مشوّقة وأحداثٍ جذابة، تمتزج مع الصوت والصورة التي يمزجها القائمون على صناعة الفيلم، فيخرج عمل جديرًا بأن يبقى أمدًا بعيدًا أحد مفضلات الجمهور.