حكاية المُتطرفين مع العرض السينمائي الأول في تاريخ المملكة
رجا ساير المطيري
في عام 2009م شهدت الساحة السينمائية في المملكة العربية السعودية حدثًا استثنائيًا كان بإمكانه أن يختصر الكثير على صناعة الأفلام السعودية، وأن يوفر الوقت الطويل الذي استغرقته عودة صالات السينما إلى حياة السعوديين. ويتمثل هذا الحدث في العرض السينمائي الجماهيري الأول في تاريخ المملكة لفيلم سعودي، والذي كان من نصيب فيلم «مناحي» للفنان فايز المالكي، وواجه حينها مُمانعة شديدة من قوى التطرف وصلت إلى حد احتشاد وتجمهر المُتشددين أمام بوابة مركز الملك فهد الثقافي بالرياض، حيث كان موقع العرض.
الفيلم الذي أنتجته شركة روتانا جاء ضمن مشروع أقرّته الشركة في ذلك الوقت بهدف إنتاج سلسلة من الأفلام السعودية التجارية الطويلة تحت إشراف أيمن حلواني مدير استوديوهات روتانا، وكانت البداية مع فيلم «كيف الحال» عام 2006م الذي صُوّر في دبي وشارك في بطولته هشام عبدالرحمن وخالد سامي، وكان مُخططًا له أن يُعرض محليًا، لكن الظروف الداخلية لم تكن مُهيأة حينها بسبب تهديدات غُلاة التشدد، لذلك تم الاكتفاء بعرضه في دور السينما الخليجية.
في تلك الفترة المشحونة كان الصراع محتدمًا مع قوى التطرّف، حيث عاشت السعودية منذ العام 2003م مواجهات مباشرة مع الإرهاب، وعانت من التفجيرات التي لم يسلم منها مدنيون ولا عسكريون، ولا نساء ولا أطفال، ولا مواطنون ولا مقيمون، في انتهاك صارخ لحرمة الإسلام وسماحته. وكان خطاب التشدد يُوفر غطاءً وزادًا معنويًا للعمل الإرهابي الحركي، من خلال خطب المساجد، والكاسيت، وبرامج التلفزيون والإذاعة التي كانت تستضيف دعاة التطرّف.
وُضعت السينما في ذلك الوقت في قلب الصراع، واعتبرها المتشددون رأس الحربة في صراعهم مع التنوير، لذا لم يوفروا فرصة ولا وسيلة لوأد أي حِراك سينمائي، حتى لو كان مجرد عرض متواضع لفيلم قصير في نادٍ أدبي، وكان يكفي أن يأتي احتجاج من أصغر «محتسب» على أي جهة تنظم عرضًا، لكي يُمنع العرض!
في ظل هذا الواقع جاء فيلم »مناحي« عام 2009م ليُبشر بعودة العروض السينمائية التجارية إلى المملكة بعد غياب طويل، لكن المُمانعة كانت شديدة للغاية. أعلنت شركة روتانا حينها بأنها بصدد عرض الفيلم في أربع مدن سعودية، وستكون هذه العروض التجارية الأولى في المملكة منذ توقف نشاط صالات عرض الأفلام في الأندية والأحواش عام 1979م، إضافة إلى أنها أول استثمار سينمائي محلي لفيلم سعودي داخل المملكة، حيث طُرحت تذاكر العروض بأسعار رمزية، وخُصّص ريعها لصالح مرضى السرطان.
أدى الفنان فايز المالكي دور البطولة في الفيلم الكوميدي بشخصية «مناحي» الرجل الأعزب الذي يعيش مع والدته العجوز في الصحراء، ويحلم بامتلاك مزرعة صغيرة، لكنه يدخل في مواقف طريفة عند زيارته للمدينة. شارك في بطولة الفيلم منى واصف، وعبدالإمام عبدالله، وريم عبدالعزيز، وهو من تأليف مازن طه وإخراج أيمن مكرم.
انطلقت عروض الفيلم في جدة، ثم الطائف، وانطلقت معها موجة من الاحتجاج العنيف قادها «مشايخ» التطرف في عدة قنوات فضائية تابعة للتيار المتشدد. كان الضجيج عاليًا، والتهديدات كبيرة، في الوقت الذي شهدت فيه عروض جدة والطائف حضورًا جماهيريًا كثيفًا أكد أن المجتمع يتطلّع إلى عيش حياة طبيعية بعيدًا عن وصاية التيار المتشدد. ومع اقتراب عروض مدينة الرياض في منتصف العام 2009م، حشد دعاة التطرف قواهم لما كانوا يرونه المعركة الكبرى!
وبالفعل كانت معركة حقيقية، شهدت مواجهات وصدامات في موقع العرض؛ مركز الملك فهد الثقافي بالرياض، حيث احتشد المتشددون أمام بوابة المركز يُريدون الدخول بدون تذاكر ليمنعوا العرض، وقد قُبض على مثيري الشغب من بينهم، فيما نجحت مجموعة من التسرّب إلى مسجد المركز، وخَطب قائد المجموعة بُحرمة السينما من على منبر المسجد، وحاول هو وأتباعه اعتراض الجمهور المتوجّه لصالة العرض، قبل أن يتم القبض عليهم وإحالتهم إلى جهات الاختصاص.
استمرت العروض لعدة أيام، وكانت الاحتجاجات تكبر كل يوم مثل كرة ثلج، وتركّزت سهام الاحتجاج على بطل الفيلم فايز المالكي، وأيضًا على مدير العلاقات العامة بروتانا إبراهيم بادي، الذي كان بعد انتهاء كل عرض يظهر في القنوات التلفزيونية ليُفند ويُبرر ويُدافع ويواجه بعض المشايخ الفضائيين! ورغم قوة حُججه، ومنطقيتها، وبداهتها، ورغم حجم الاحتفاء المجتمعي العالي بالعروض، وعدد الجمهور المتزايد، فإن الشركة المُنتجة لم تستطع الصمود واختارت عدم استكمال مشروعها السينمائي الطموح، وألغت عروضها المقررة في مدينة أبها، كما قلّلت من إنتاجها للأفلام السعودية الطويلة، في مقابل تكثيف إنتاج الأعمال التلفزيونية.
كانت عروض فيلم «مناحي» ذروة المواجهات التي تصادم فيها المجتمع السعودي مع قوى التشدد الرافضة للسينما، ومنذ العام 2009م سيطر هدوء خانق على الساحة السينمائية المحلية، وتوقفت العروض الفيلمية إلا من بعض العروض الصغيرة التي تُنفذ على استحياء في مدن فرعية، إلى أن جاءت »رؤية السعودية« التي أعادت حياة السعوديين إلى طبيعتها، وأوقفت ضجيج المتطرفين وشغبهم المزعج.
عندما نرى اليوم أعداد صالات السينما تتزايد في جميع المدن السعودية، والإقبال عليها كبير من المواطنين والمقيمين، وكيف أن وجود صالة السينما أصبح طبيعيًا في حياة السعوديين ولا يستحق أي جلبة من أي نوع، سنُدرك حجم المُنجز الهائل الذي حققته الرؤية المُلهمة، «رؤية السعودية 2030» في سنوات قليلة، حيث انتقلنا من تجمهر المتشددين أمام الصالة الوحيدة التي تعرض الفيلم السعودي الوحيد »مناحي« في عام 2009م، إلى السوق السينمائية السعودية التي أصبحت اليوم أهم سوق في الشرق الأوسط، وأكثرها نموًا وربحًا، بل الأفضل في مستوى الرقابة إلى درجة أن الجمهور في بعض الدول المحيطة يسافر إلى المملكة لرؤية الأفلام التي لا تعرض في بلاده. إنها نقلة عظيمة جدًا.
المصدر: سوليوود