عندما تحكم السخافة دولة.. لبنان مثالًا
حسن أحمد عبد الله
ثمة مثل شعبي لبناني هو “الفقر يولد النقار”، ومن ينظر إلى الواقع الحالي وتحلل أجهزة الدولة برمتها، يكتشف أن هذه “المنقارة” السياسية ليست جراء ولادة الفقر الناس، إنما نتيجة طبيعية لفقر السياسيين في إدراك حجم المشكلة التي تسببوا بها، جراء الكيدية التي يمارسونها.
اعتاد هذا البلد الصغير المساحة، الكثير المشكلات على هذا منذ زمن، لكن قبل الحرب كانت العلاقات السياسية تنتهي عند حدود معينة، إنما اليوم، فإن الأمر مختلف جدا، لأسباب عدة، أهمها إفلاس القوى، مجتمعة، لوضع مشاريع سياسية يمكن أن تُلبي حاجة الناس، لهذا فهي تكتفي بتأجيج الشعارات، وشد الأعصاب المذهبية والطائفية، وتمارس رد الفعل ليس فقط في الملف الرئاسي، بل أيضا في تشكيل الحكومات، وتعيين الموظفين، والغريب في هذا الأمر أنها لا تزال تجد من يؤيدها، رغم الكارثة الاجتماعية والصحية والتعليمية التي حلت في البلاد.
إذ ليس انخفاض سعر صرف الليرة مقابل الدولار، ولا سرقة ودائع المواطنين هي المشكلة فقط، بل الأمر يتعدى ذلك إلى عدم وجود مرجعية سياسية للبلاد، بمعنى عدم وجود مشروع دولة، وهذا بحد ذاته مشكلة تاريخية، منذ وجد لبنان عام 1920، لأن الصراع كان دائما على هوية أهو لبنان عربي، أو غير عربي، إلى حد أن بعض القوى السياسية حرمت في بداية الجمهورية الوليدة الانضمام إلى الوظائف العامة، وفي العام 1958، آبان بروفة الحرب الأهلية الأولى، وجدت هذه القوى نفسها خارج منظومة مؤسسات الدولة، وأنها شبه ملحقة بدولة غريبة عنها.
منذ ذلك الوقت حاولت هذه الجماعات الانضمام إلى الدولة، والسعي إلى الحصول على مكاسب مثل بقية الجماعات، غير أنها اصطدمت باحتكار القرار السياسي من المرجعيات الطائفية والسياسية الممثلة لها، إلى حد أن طرفة تروى عن زعيم أن قال لوفد من إحدى القرى جاء مطالبا ببناء مدرسة في القرية: “لماذا تريدون مدرسة، فإن أعلم ابني وهو ابنكم”.
أما عن احتكار الوظائف ثمة حادثة مثبتة تاريخيا، ففي أواخر العهد العثماني، كانت وظيفة كاتب محتكرة من إحدى العائلات، وهي تحتاج لرجل يقرأ ويكتب، وحين مات هذا عين مكانه رجل أُمي، لأنه الوريث الشرعي له، وما ورثه عن العثمانيين استمر في عهد الاستعمار الفرنسي، وحتى منتصف ستينات القرن الماضي، استمر ورثة هذا الشخص في المنصب ذاته.
الناظر إلى الواقع اللبناني اليوم لا يجد كبير فرق بين الأمس واليوم، فالزعماء التقليديون لا يزالوان يورثون مناصبهم وزعاماتهم، بل حتى في الأحزاب تجري عملية التوريث، باستثناء حزبين أو ثلاثة فقط، أما الباقي فمعروف من هو الوريث.
ومن الغرائب أيضا أن جميع القوى السياسية تعمل على ترسيخ قناعة لدى الشعب أن الانتخابات الرئاسية مرتبطة بالوضع الإقليمي، وحتى الدولي، وهو أمر ليس صحيحا على الإطلاق، لأن لبنان في الحسابات الإقليمية والدولية مجرد تفصيل ثانوي، لكن للتضليل تستخدم هذه الحجة، أما الحقيقة فهي الصفقات التي تعقد على ظهر الشعب، وكم ستكون منفعة قادة هذا الفريق أو ذاك.
ومن الطرائف في هذا الشأن التي تدل على محاولة تجهيل الشعب، فخلال الحرب الأهلية، وتحديدا في ربيع عام 1988، اختلفت فريقان على حصيلة العوائد من حاجز ، أو ما كان يسمى معبرا، بين مرفأ بيروت والشطر الغربي من العاصمة، فعمد أحدهم إلى إقفال المعبر، ووقف تسليم البضائع إلى الشطر الغربي، يومها كتبت إحدى الصحف حرفيا “فتح معبر المرفأ مرتبطة بتطورات الوضع بين الكرملين والبيت الأبيض”، وفي اليوم التالي اتفق زعيما الفريقين وفتح المعبر، ولحست الصحيفة المحسوبة على فريق ما عنوانها.
بكل هذه السخافة والبساطة تتعاطى القوى السياسية في أمر بالغ الأهمية وهو عودة المؤسسات إلى الانتظام، لأنها جميعها مستفيدة من فقر الناس، كما أنها مستفيدة من ثروة لبنان.