آراء

السينما ولاء للحقيقة

تركي صالح

ليس غريبًا أن تشاهد عرسًا شعبيًا في فيلم مصري، ولا مستغربًا أن تظهر مشاهد إطلاق نار في فيلم أميركي؛ أمَّا الأغاني الهندية فيبدو أنها من شروط الإنتاج في بوليوود، ليس فنًا ذلك الذي يخلق عالمًا مستعارًا لا يمت لميدانه بأي صلة، لكنه ليس فنًا أيضًا ما لم يضع بصمته على القصة التي يرويها.

إن الفن الحقيقي هو الصدق والولاء لحقيقة الموضوع والصناعة، فلا نجاح لعمل يجنح بعيدًا عن موضوعه، ولا حياة لمنتج يخادع جمهوره. لقد أنتج أسلاف السينمائيين أعمالهم العظيمة لأنهم يعشقون العمل الذي يقدمونه ويصدقونه، والصدق هنا هو الكذب الذي كان العرب يمدحون به فنهم “الشعر” فيقولون: أعذب الشعر أكذبه. والكذب هنا ليس ضد الصدق، بل البعد عن السائد ومخالفة المعهود، والصدق في تصوير المادة وخدمة الموضوع. إن الاستعارة الفنية التي يقوم عليها عماد الأدب، هي أساس صناعة الفن، فلا قوام لفن بلا استعارة، ولا قبول لعمل بلا شرفات مفتوحة على بحار من الاحتمالات. الفن عدو التسليم وخدين الفاعلية والجدل والخيال.

في فيلم “العراب” وهو ما هو في تاريخ السينما، حارب المنتج “ألبرت رودي” وكاتب السيناريو “ماريو بوزو” والمخرج فرانسيس كوبولا، من أجل تصوير مشاهد من الفيلم في إيطاليا رغم المعارضة بحجة التكاليف الإضافية، وبعد عرض الفيلم شاهد الجميع قوة تأثير هذه المشاهد وأهميتها في القصة. لقد كانت منقوصة، وإن كنا أدق تعبيرًا، مبتورة لو لم يتم إدراجها.

لكن الحرص على دقة تمثيل القصة وتقديمها طبقًا للكتاب، وإن نجح في “العراب”، فإنه ليس شرطًا للنجاح، فالفن بلا خرائط طريق وإن توهم البعض. فالجدل الذي أثير على فيلم “العقل الجميل”، وهو من إخراج “رون هاوارد” وبطولة “راسل كرو”، كان مختلفًا، فقد كان عن مخالفة الفيلم للقصة في الكتاب المأخوذ منه قصة الفيلم، وهو كتاب بنفس اسم الفيلم من تأليف الكاتبة “سيلفيا نصار” عن قصة العالم الأميركي الفيزيائي «جون ناش» الحائز على جائزة نوبل في الاقتصاد، حيث كان يعاني من هلوسات تم تشخيصها على أنها «فصام»، وقد أصر المخرج على مخالفة السياق في القصة وأضاف على الهلوسات السمعية هلوسات بصرية.

وهذه سيلفيا نصار تعلق على هذا الجدل فتقول: “إن صناع الفيلم ابتكروا سردًا، في حين أنه كان بعيدًا عن الأحداث الحقيقة، فهو حقيقي بالنسبة لروح قصة ناش”. لقد كان حقيقيًا بالنسبة إلى روح القصة، هذا تعبير دقيق يشرح موضوع المقال. فالفن، والسينما خاصة، هو تعبير وولاء للحقيقة يحملها على خوض مناطق شائكة من أجل مساعدة العدسة على تصوير الحقيقة، أو على الأقل تعبيد الطريق للوصول لروحها. إنه المجاز الذي يغرم به عشاق الفن ومحبو لعبة الاحتمالات والخوض الدائم في عالم الزوايا المتعددة للفكرة أو الحدث.

يروي نور الشريف الممثل المصري الراحل أنه تعرض لضغوطات كثيرة خلال بطولته لفيلم «ناجي العلي»، وهو الفنان التشكيلي ذائع الصيت صاحب شخصية “حنظلة”، والذي تعرض لعملية اغتيال اتهم فيها شخصيات فلسطينية بارزة، وتعرض الشريف لهجوم إعلامي شديد قبل عرض الفيلم وبعده، ومنع عرض الفيلم في بلدان عربية كثيرة. والهجوم على نور الشريف لم يكن بسبب كونه بطل العمل فحسب، ولكن لحماسته الشديدة للعمل، خاصة مع مساهمته في إنتاج الفيلم ليدخل في صراع صعب مع قوى متعددة. إنه إيمان بدور الفن، وتحقيق لموقعه، واهتمام بجوهر الصناعة، وهو الصدق والولاء للحقيقة.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى