
القانون الواجب التطبيق على التحكيم التجاري في المملكة العربية السعودية
د. مساعد سعود الرشيدي
أدّى التطوّرُ الهائلُ في معدّلاتِ التنميةِ الاقتصاديةِ إلى أن تشعّبت العلاقاتُ التجاريةُ والاقتصاديةُ وتعارضت المصالحُ، فظهرت العديدُ من المشكلاتِ نتيجةً لهذه العلاقاتِ، الأمرُ الذي دعت معه الحاجةُ لاستحداثِ وسائلَ جديدةٍ لفضِّ المنازعاتِ تماشيًا مع هذا التطوّرِ السريعِ، ويكون من شأنِها أن تُخفِّف العبءَ المُلقى على كاهلِ قضاءِ الدولةِ، والسعيَ الحثيثَ نحو عدمِ إرهاقِ المتقاضينَ، وضمانَ تحقيقِ مصالحِهم على نحوٍ آمنٍ وسريعٍ في آنٍ واحدٍ؛ أي إيجادَ نوعٍ من العدالةِ الخاصةِ بعيدًا عن ولايةِ القضاءِ العاديِّ. (1)
ويُعدُّ التحكيمُ من أهمِّ الوسائلِ التي بمقتضاها يستغني الأطرافُ عن القضاءِ العاديِّ، وفيه يتفقُ الأطرافُ على عرضِ منازعتِهم على شخصٍ أو أشخاصٍ يختارونهم أو يحدِّدون وسيلةَ اختيارِهم، لكي يتولَّوا الفصلَ في تلك المنازعاتِ(2). وقد واكبت المملكةُ العربيةُ السعوديةُ التطوّراتِ التي يشهدُها العالمُ المعاصرُ، الذي بات يُعوِّل على التحكيمِ للفصلِ في الكثيرِ من المنازعاتِ، فأصدرت أوّلَ نظامِ تحكيمٍ لعام 1403هـ (3)، ثم أصدرت نظامًا جديدًا للتحكيمِ في عام 1433هـ (4)، ليصبحَ بديلًا للنظامِ السابقِ(5).
وقد احتدم النقاشُ حول التحكيمِ والقانونِ الذي يخضعُ له ويحكمُ مسائلَه، ولدراسةِ القانونِ واجبِ التطبيقِ على التحكيمِ التجاريِّ، فإنَّ ذلك يقتضينا بدايةً التساؤلَ عن المقصودِ من القانونِ واجبِ التطبيقِ، ثم نتساءلُ عن معاييرِ ذلك القانونِ واجبِ التطبيقِ على اتفاقِ التحكيمِ، وعن القواعدِ القانونيةِ واجبةِ التطبيقِ على موضوعِ النزاعِ.
أولاً: المقصود بالقانون الواجب التطبيق
يُقصَدُ بالقانونِ واجبِ التطبيقِ على موضوعِ النزاعِ أمامَ التحكيمِ: مجموعةُ القواعدِ القانونيةِ التي يرى المحكَّمُ، لسببٍ أو لآخرَ، أنَّها المناسبةُ للتطبيقِ على النزاعِ؛ سواء أكان مصدرُها قانونًا وطنيًا أم مشتقّةً من مجموعةِ قوانينَ وطنيةٍ، أم أنَّها قواعدُ متعارفٌ عليها في مجالِ التجارةِ الدوليةِ بعيدًا عن القوانينِ الوطنيةِ للدول. (6)
ثانيًا: معايير القانون واجب التطبيق على اتفاق التحكيم
أوضحت المادة الثانية من نظام التحكيم معايير القانون واجب التطبيق على اتفاق التحكيم، فنصت على أنه: “مع عدم الإخلال بأحكام الشريعة الإسلامية وأحكام الاتفاقيات الدولية التي تكون المملكة طرفًا فيها؛ تسري أحكام هذا النظام على كل تحكيم، أيًّا كانت طبيعة العلاقة النظامية التي يدور حولها النزاع، إذا جرى هذا التحكيم في المملكة، أو كان تحكيمًا تجاريًّا دوليًّا يجرى في الخارج، واتفق طرفاه على إخضاعه لأحكام هذا النظام.
ولا تسري أحكام هذا النظام على المنازعات المتعلقة بالأحوال الشخصية، والمسائل التي لا يجوز فيها الصلح”.
ويتضح من النص آنف الذكر أن نظام التحكيم قد عول على معيارين لتحديد القانون واجب التطبيق من خلال: قانون مكان التحكيم، وقانون الإرادة، وسوف نتناول هذين المعيارين فيما يلي:
أوضحت المادةُ الثانيةُ من نظامِ التحكيمِ معاييرَ القانونِ واجبِ التطبيقِ على اتفاقِ التحكيمِ، فنصَّت على أنَّه: “مع عدمِ الإخلالِ بأحكامِ الشريعةِ الإسلاميةِ وأحكامِ الاتفاقياتِ الدوليةِ التي تكونُ المملكةُ طرفًا فيها؛ تسري أحكامُ هذا النظامِ على كلِّ تحكيمٍ، أيًّا كانت طبيعةُ العلاقةِ النظاميةِ التي يدورُ حولَها النزاعُ، إذا جرى هذا التحكيمُ في المملكةِ، أو كان تحكيمًا تجاريًّا دوليًّا يُجرى في الخارجِ، واتَّفق طرفاه على إخضاعِه لأحكامِ هذا النظامِ. ولا تسري أحكامُ هذا النظامِ على المنازعاتِ المتعلِّقةِ بالأحوالِ الشخصيةِ، والمسائلِ التي لا يجوزُ فيها الصلحُ”.
ويتَّضح من النصِّ آنفِ الذكرِ أنَّ نظامَ التحكيمِ قد عوَّل على معيارينِ لتحديدِ القانونِ واجبِ التطبيقِ، من خلالِ: قانونِ مكانِ التحكيمِ، وقانونِ الإرادةِ، وسوف نتناولُ هذين المعيارينِ فيما يلي:
- المعيار الأول قانون مكان التحكيم
تنصُّ المادةُ الخامسةُ (1/أ) من اتفاقيةِ نيويورك لعامِ 1958، التي انضمَّت إليها المملكةُ في 19/4/1994؛ على أنَّه: “لا يجوزُ رفضُ الاعترافِ والتنفيذِ بالنسبةِ للقرارِ التحكيميِّ إلّا إذا تمَّ، بناءً على طلبِ الطرفِ المطلوبِ تنفيذُ القرارِ ضدَّه، تقديمُ هذا الطرفِ الدليلَ على ما يلي أمامَ السلطةِ: إنَّ طرفي العقدِ المشارَ إليه في المادةِ (2) كانا فاقدي الأهليةِ في نظرِ القانونِ الذي ينطبقُ عليهما، أو إذا كان الاتفاقُ (المعقودُ) بينهما غيرَ صحيحٍ في نظرِ القانونِ الذي أخضعه إليه الطرفان، أو في نظرِ قانونِ البلدِ الذي صدرَ فيه القرارُ التحكيميُّ إذا كان الاتفاقُ لا يتضمَّن إشارةً ما لهذا الموضوع”.
ويُستخلَصُ من هذا النصِّ أنَّ اتفاقيةَ نيويورك تُحدِّدُ في مجالِ التحكيمِ الدوليِّ، القانونَ واجبَ التطبيقِ على اتفاقِ التحكيمِ بأنَّه قانونُ إرادةِ المتعاقدينَ، وعندَ عدمِ الاتفاقِ يُطبَّقُ قانونُ الدولةِ التي يصدرُ فيها حكمُ التحكيمِ، وهو قانونُ الدولةِ التي يُجرى فيها التحكيمُ.
وقد أخذَ نظامُ التحكيمِ السعوديُّ بهذا المعيارِ المكانيِّ؛ حيث نصَّ في المادةِ الثانيةِ منه على أنْ يسري نظامُ التحكيمِ على كلِّ تحكيمٍ يُجرى في المملكةِ، كما يسري نظامُ التحكيمِ أيضًا على التحكيمِ الذي يُجرى في الخارجِ حالَ اتفاقِ طرفيه على إخضاعِه لهذا النظام.
- المعيار الثاني قانون الإرادة
وفقًا لاتفاقية نيويورك 1958 في المادة الخامسة (1/أ)؛ يجب الرجوع بالنسبة إلى إنعقاد الاتفاق على التحكيم وشروط صحته وترتيبه لآثاره وحوالته وتفسيره إلى قواعد القانون الذي اتفق الأطراف على خضوع الاتفاق له، فالأطراف لهم حرية اختيار القانون الذي يحكم اتفاق التحكيم، ولهذا فإنّ قانون الإرادة هو الذي يكون واجب التطبيق.(7)
ولما كانت المملكة قد انضمت لاتفاقية نيويورك 1958 في 19/4/1994م، الأمر الذي يقطع بأن قانون الإرادة هو الذي يجب الرجوع إليه أولًا، وليس هناك قيدٌ على هذه الحرية سوى أحكام الشريعة الإسلامية، وهذا ما أكَّدَتُه المادة في نَصِّها؛ حيث قضت بأنه: “مع عدم الإخلال بأحكام الشريعة الإسلامية وأحكام الاتفاقيات الدولية التي تكون المملكة طرفًا فيها…..”، يعني هذا القيد عدم مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية. وقد أكَّد نظام التحكيم على قانون الإرادة حين نص في المادة الخامسة منه على أنه: “إذا اتفق طرفا التحكيم على إخضاع العلاقة بينهما لأحكام أي وثيقة (عقد نموذجي، أو اتفاقية دولية أو غيرهما)، وجب العمل بأحكام هذه الوثيقة بما تشمله من أحكام خاصة بالتحكيم، وذلك بما لا يخالف أحكام الشريعة الإسلامية”.
ثالثًا: القواعد القانونية واجبة التطبيق على موضوع النزاع
بينت المادة (38) من نظام التحكيم القواعد القانونية واجبة التطبيق على موضوع النزاع في حالة اتفاق الأطراف وحال اختلافهم وحال الاتفاق على تفويض هيئة التحكيم بالصلح، فنصت على أنه: ”1 – مع مراعاة عدم مخالفة أحكام الشريعة الإسلامية والنظام العام بالمملكة، على هيئة التحكيم أثناء نظر النزاع مراعاة الآتي:
أ – تطبيق القواعد التي يتفق عليها طرفا التحكيم على موضوع النزاع، وإذا اتفقا على تطبيق نظام دولة معينة اتبعت القواعد الموضوعية فيه دون القواعد الخاصة بتنازع القوانين، ما لمْ يتفقْ على غير ذلك.
ب – إذا لم يتفق طرفا التحكيم على القواعد النظامية واجبة التطبيق على موضوع النزاع؛ طبقت هيئة التحكيم القواعد الموضوعية في النظام الذي ترى أنه الأكثر اتصالًا بموضوع النزاع.
ج – يجب أن تراعي هيئة التحكيم عند الفصل في موضوع النزاع شروط العقد محل النزاع، وأن تأخذ في الاعتبار الأعراف الجارية في نوع المعاملة، والعادات المتبعة، وما جرى عليه التعامل بين الطرفين.
د – إذا اتفق طرفا التحكيم صراحة على تفويض هيئة التحكيم بالصلح جاز لها أن تحكم به وفق مقتضى قواعد العدالة والإنصاف”.
المصدر: مساعد سعود الرشيدي
اقرأ أيضًا: خبير قانوني: ضوابط العلاقة الإيجارية في “الرياض” خطوة استراتيجية لضبط التضخم وتعزيز استقرار “السوق العقاري”