كرم الفقراء وبخل الأغنياء

عمر غازي
متى نرى جوهر الإنسان كما هو، أفي ضجيج الخطاب أم في لحظة القسمة التي لا يشهدها إلا الضمير، عند الاحتكاك بالمال تسقط الزينة ويُكشف المعيار الحقيقي، فلا يعود السؤال من الأقدر على العطاء، بل من الأصدق فيه.
في جامعة كاليفورنيا بركلي عام 2010 قدّم بول بيف وزملاؤه سلسلة تجارب في علم النفس الاجتماعي قاست قرارات مالية صغيرة بين الاحتفاظ بالنصيب الكامل ومشاركة جزء منه مع مجهول، رجّحت النتائج ميل أبناء الشرائح الأدنى إلى الإيثار والعطاء الفوري مقارنة بذوي المكانة الأعلى، ليس لأن الغنى يفسد الفطرة، بل لأن بيئات الندرة تُدرّب الانتباه إلى الغير بينما تعزّز الوفرة إحساس الاكتفاء والاستقلال.
وفي 2012 نشر الفريق نفسه مع باحثين آخرين نتائج سبع دراسات محكّمة بيّنت أن ذوي المكانة الأعلى كانوا أكثر استعدادًا لخرق القاعدة في مواقف حياتية ومعملية ثم تبرير السلوك بوصفه اجتهادًا مشروعًا، وقد ظهرت هذه النتائج في أعمال منشورة تحت مظلة الأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة، ومعناها أن الموارد الواسعة لا تصحبها تلقائيًا حساسية أكبر لحقّ الآخر كما يتوقع الناس بادئ الرأي.
وعندما نخرج من المختبر إلى السجلات العامة تتغير زاوية النظر، فقد قدّم مسح كيف تعطي أمريكا الذي أصدرته كرونيكل أوف فيلانثروبي عام 2012 قراءة تُظهر أن الأسر الأقل دخلًا تقتطع من دخلها نسبة أعلى مما يقتطعه الأعلى دخلًا، حتى وإن بقي الحجم المطلق للعطاء أكبر لدى المقتدرين، والمعنى أن الكرم لا يُقرأ من خانة المبلغ وحدها بل من خانة عبئه على مائدة المعطي.
ثم جاء تحليل واسع النطاق عام 2015 قاده يان كورندورفر وزملاؤه ونُشر ضمن بحوث الوصول المفتوح ليضيف طبقة مكمّلة، إذ بدا أن ذوي الدخل الأعلى يتصدّرون في التبرع والتطوع حين يُقاس السلوك على امتداد سنوات وبقنوات مؤسسية، بينما تستمر التجارب القصيرة في التقاط ميزة فورية لصالح الأقل دخلًا في التعاطف والعطاء الصغير السريع، كأن السياق يحكم العدسة، التجربة ترصد حرارة اللحظة، والسجلات ترصد أثر التنظيم.
ولِلسياق الاقتصادي أثرٌ أبعد من الجيب، ففي جامعة كاليفورنيا وستانفورد عام 2015 قدّم بول كوتيه وزملاؤه نتائج تُظهر أن ارتفاع عدم المساواة يبرد سخاء المقتدرين ويغذي لديهم تصورًا بالمنافسة لا بالجيرة، بينما يزداد العطاء حين تنخفض الفجوة أو يكثر الاحتكاك اليومي بين الطبقات في الحي والعمل والفضاء العام، أي إن السياسات التي تقلّص المسافة لا تحسّن المؤشرات وحدها بل تعيد تشغيل آليات التعاطف التي يجمّدها العزل الطبقي.
الخلاصة التي تسندها هذه الخيوط ليست شعارًا ضد فئة ولا تمجيدًا لأخرى، الفقير أكرم حين نقيس نسبة العبء على ميزانيته وحين نختبر الرحمة في المواقف المباشرة، والغني أعظم أثرًا في الحجم المطلق وقد يبدو أكثر مبادرة حين يشتغل العطاء عبر مؤسسات مستقرة، وبين الطرفين تصنع العدالة الظاهرة والقرب الاجتماعي شروط السخاء الأصدق، إذ لا تمنحنا الطبقة اليقين، بل تمنحنا الظروف فرصة أن نرى الإنسان كما يعمل لا كما يصرّح.
والقاعدة العملية بسيطة وعسيرة معًا، لا تعرف إنسانًا حتى تمر معه معاملة صغيرة مكتوبة واضحة ثم ترى كيف يحسب القسمة إذا اختلط الحق بالمصلحة، ولا تُحسَّن السخاوة بالوعظ وحده بل بجسور تقرّب الناس من بعضهم وتحمّل كلًّا منهم جزءًا عادلًا من الثمن على قدر ما في يده وما على مائدته.
ويبقى السؤال بلا إجابة، هل نكتفي بمبارزة الشعارات بين كرم الفقير وبذخ الغني، أم نبني واقعًا يجعل القرب قاعدة والعدل ظاهرًا والسخاء عادة، حتى يصير السؤال نفسه أقل حاجة إلى جواب لأنه يُرى كلما وُزّع الرغيف كما ينبغي؟
اقرأ أيضًا: عض قلبي ولا تعض رغيفي