عمر غازي

ترويض الألم

عمر غازي

هل يعرّفنا الألم أم يفضحنا، وهل يمرّ الابتلاء بنا مرورًا عابرًا أم يمرّ منّا فيعيد ترتيب ما نظن أننا نعرفه عن أنفسنا، في اللحظة التي يتعطل فيها المألوف تنكشف بناية الداخل كما هي، لا كما نريد أن نراها، هنا لا يكون السؤال لماذا وقع البلاء فقط، بل ماذا سيفعل هذا الحدث بمعنى حياتنا إن قبلنا أن ننظر إليه كاختبار للمعنى لا كحادثة صمّاء.

ليس الابتلاء تمجيدًا للألم ولا دعوة لطلبه، بل اعترافًا بأنه جزء من النسيج الإنساني، وقد لفت إليه عالما النفس السريري ريتشارد تيدِسكي ولورنس كالهون، وهما من أبرز من صاغ مفهوم النمو ما بعد الشدة في التسعينيات، حيث وجدا أن نسبة معتبرة ممن مرّوا بتجارب قاسية يبلّغون لاحقًا عن تبدّلٍ إيجابي في الرؤية والعلاقات والأولويات، ليس لأن الألم جميل، بل لأن الإنسان قادر على تحويل الصدمة إلى مادة تعلم حين تتوافر له اللغة والدعم والمعنى.

حين نضع المعنى في قلب التجربة تتبدل استجابتنا للضغط نفسه، ففي ستانفورد عام 2013 قدّمت أليا كروم، وهي عالمة نفس اجتماعي درست ما تسميه عقلية الضغط، تدريبًا قصيرًا يعلّم المشاركين النظر إلى الضغط بوصفه طاقة يمكن تسخيرها لا سمًا يجب الهرب منه، فارتفعت لدى من تلقوا هذا التأطير مؤشرات الأداء وانخفضت إشارات التوتر الفيزيولوجية مقارنة بمن تلقوا رسائل التحذير، كأن إعادة تعريف الإشارة تغيّر حمل الجسد لها دون أن تزول الواقعة.

ومع المعنى يأتي الانضباط العقلي الذي يحمي من دوائر الاجترار، ففي أكسفورد عام 2015 نشر فريق يقوده ويليم كويكن، وهو باحث إكلينيكي في اضطرابات المزاج، دراسة أظهرت أن العلاج المعرفي القائم على اليقظة الذهنية يحد من انتكاس الاكتئاب لدى ذوي التاريخ المتكرر بمستوى مقارب للاستمرار على الدواء الوقائي، أي إن تدريب الانتباه على الملاحظة غير القاضية يمنح العقل مسافة يرى فيها الفكرة قبل أن تستولي على مصيره.

والابتلاء لا يُحتمل وحده، فدراسة البالغين الطولية في هارفارد، وهي من أقدم الدراسات المستمرة على الحياة النفسية والاجتماعية منذ أربعينيات القرن العشرين ويشرف على موجاتها الحديثة روبرت وولدِنغر، تشير إلى أن جودة العلاقات الدافئة تتنبأ بالصحة والسعادة على المدى البعيد أكثر من الدخل وحده، إذ تعمل الروابط الموثوقة عازلًا اجتماعيًا يمتص الصدمات ويعيد التوازن بعد اهتزاز.

وليس المقصود تجميل القسوة بعبارات شاعرية، بل الإمساك بأدوات صغيرة أثبتت جدواها، فالكتابة التعبيرية التي بدأها جيمس بنِّبيكر في الثمانينيات، وهو باحث في علم النفس الصحي، ارتبطت في مراجعات تجريبية بتحسنات متواضعة لكنها ثابتة في المزاج وبعض مؤشرات الصحة حين تُمارس بجرعات قصيرة ومنظمة، والقاعدة أن نسرد ما حدث وما شعرنا به وما تعلّمناه، لا لنستدر عطفًا، بل لنحوّل الوقائع إلى قصة مفهومة يمكن حملها دون أن تكسر الظهر.

كما أن بناء طقوس رعاية يومية أثناء العاصفة يغير المآل، نوم منتظم قدر الإمكان، وتغذية كافية وإن لم تكن مثالية، وحركة بدنية متدرجة، وحدّ للتعرض اللامحدود للأجهزة الذكية ووسائل التواصل الاجتماعي يعصم الذهن من الطفو المستمر، وقد أظهرت برامج الصمود السلوكية في بيئات العمل والمدارس أن المكاسب تأتي من عادات صغيرة تُثبَّت ثم تُصان، لا من قفزات انفعالية سرعان ما تنطفئ.

هذا كله لا يناقض الإيمان ولا يلغيه، بل يضع له طريقًا عمليًا، فالثقة بوعدٍ أعلى لا تعني تعليق الأسباب، والرضا لا يعني السكوت عن الأذى، والابتلاء ليس شهادة تفوق بالضرورة ولا علامة عقوبة، إنه حدث يطرق الباب ثم يمضي، ويبقى ما نفعله نحن بين الطَّرْق والمضي هو الفارق بين مرارة عابرة وجرح يتحول إلى تعريف، من يحمل المعنى والدعم والعادة يخرج وإن بثمن، ومن يترك نفسه لدوامة السقوط قد يطول عليه الليل وإن قصرت أيام البلاء.

ويبقى السؤال، هل نسمح للابتلاء أن يكون معلمًا يعيد ترتيب بوصلة الحياة فنزداد وضوحًا وصلابة، أم نتركه يعرّفنا إلى الأبد بوصفنا من كُسروا عند أول عاصفة ولم يمدّوا أيديهم إلى معنى ينهض بهم من داخلهم قبل أن تنقضي المحنة من خارجهم؟

 

اقرأ أيضًا: عض قلبي ولا تعض رغيفي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى