الخوف أو الرعب
تغريد العتيبي
لطالما احتوت القوطية على أصنافٍ متعددة من الرعب وغالبًا تُرجمت على أنها “أدب الرعب” فقط، لكن هذا منظور يقتصر على جانب واحد بعيدًا عن تنوع وصور ودرجات القوطية بشكل عام. فمثلًا كتاب بيوغرافي يروي قصة بؤس وحرب قد يحتوي على أنماط قوطية في التعبير عن الأماكن والشكليات والأجواء لكنّه لا يُصنَّف “أدب رعب بحت” لما قد يبحث عنه القارئ في الواقعية عن الرعب المعتاد الخيالي. وقد تؤخذ رواية قوطية كوميدية على أنها “أدب رعب” بالرّغم من كونها عائلية وليست مُخيفةً حيث لم يكن الهدف من السرد. هذه التداخلات قد تشكل إشكاليات معينة في التصنيفات، لكن عند تعريف القوطية في الأشمل هو ترجمتها كما هي عوضًا عن “الرعب” فقط. لنعود هنا لأوائل تكون صنف القوطية كأسلوب أدبي في روايات القوطية الكلاسيكية يتضح لنا مدرستان أو اتجاهان معينان في طرح وتشكيل ومحاولة تعريف القوطية آنذاك.
مثلًا كتبت الروائية الشهيرة في القوطية الكلاسيكية آن رادكليف في مقالها “فيما يتعلق بخرق الطبيعة والخيال في الشعر” عام 1826 أن “الخوف هو شعور عالٍ يأخذ الذات إلى تجارب في الرهبة والعظمة، وبذلك يؤدي بعد ذلك إلى فهم الذات ومحاولة العودة للإحساس بالأمان”. هنا آن رادكليف تدّعي أن مسؤولية الرعب يجب أن تكون فقط أخلاقية أو هادفة بأي شكل من الأشكال ليست للإثارة الدموية التصويرية فقط. فعلى الكاتب مثلًا أن يقص حكايا الأشباح والغموض والبيوت المسكونة فقط لتتحلل في النهاية إلى مشكلات اجتماعية وصدمات نفسية. فالأشباح هنا تخيلات الشخصيات وآﻻمهم مصورة وعليهم تحدي تلك المشكلات الوحشية ومعرفة ماهيتهم متزامنًا مع إدراك القارئ ذاته. لذلك بالطبع اعتمدت رواياتها على تلك المنهجية في الخوف حيث صرحت رادكليف أن هذا التوجه هو “ذو الذوق العالي” والمستحق بالقراءة والفحص والتحليل النقدي الأكاديمي على خلاف عشوائية الرعب. لكنها انتقدت لاحقًا ومن يتبعها بالتزامها بخلق هرم أدبي في أوساط القوطية التي في حد ذاتها جاءت لتهدم تلك الأهرام التي وضعها أهل الثقافة وأصحاب القلم من الحركات النيوكلاسيكيو والرومانسية.
فأول رواية صنَّفت وادَّعت القوطية كصنف هي رواية المؤلف والقارئ في الثقافة في خضم أوساط الحركة النيوكلاسيكية، هوراس والبول، في روايته “قلعة أوترانتو” عام 1764 “عوضًا عن ذكر تعقيداتها هنا” كتب في مقدمتها مُعرِّفًا الصنف في عبارة شهيرة “كتبتها نكايةً في القوانين والنقاد والفلاسفة”. من هذا المنطلق انتقد عديد من النقاد نهج رادكليف في محاولة خلق حدود أخلاقية أو منطقية أو محاولة إرضاء الفلاسفة بتوجه «هادف».
لكن ذاك النهج لم ينتُج من العبث فكان من مخافة بعض كتّاب القوطية والرعب من أن يصنف أعمالهم الإبداعية بجانب عبثية نهج الرعب البحت. لنرى هنا ظهور أشهر ممثل وصوت لهذا الأسلوب وهو المؤلف الشهير ماثيو لويس الذي اعتمد الرعب كتصوير دموي يعتمد التجسيد والفزع والاشمئزاز والوحوش أكثر من الأشباح والقتل والجرائم مكتوبة في أبشع صورها ولا يقدم على أي تفسير أخلاقي أو نفسي أو اجتماعي، إنما تنتهي أغلب أعماله بظلامية ونهايات مفتوحة خالقةً جوًّا من الأسئلة أكثر من «إجابات» رادكليف وشبح الأعمال الهادفة. فهو هنا يعطي القارئ زمام الأمور في قراءة ونقد وتحليل ما يواجه الشخصيات وما يقرؤه من فوضوية وعبثية رعب ظلامية، وما قد «يراه» في النص وما بين السطور.
وقد نُوقش هذا التوجه على أنه عودة إلى أصول وروح القوطية البحتة التي لا تكترث بالأهرام الأدبية التي سعت النيوكلاسيكية والرومانسية لاحقًا لتأصيلها واعتمادها في قراءة المنتجات الثقافية والأدبية. ففي أصل الأمور القوطية تُعنى بأسئلة متغيرة أو خارج حدود المنطق والعقل متعلقة بالحياة والموت، وما بعده، وما قد «يعيش» ويعود ويبقى، وما قد يتسرب ويتسلل من غرف اللاوعي، وما قد تتحور إليه صدمات الطفولة في البلوغ والكبر، وما تعنيه مفاهيم لا يُفضل الأغلب رؤية محدوديتها وعشوائية حدودها.
بَيد أنّه أيضًا توجه سطر عديد من الرويات والتصويرات المبالغة فيها من الإثارة واعتمادها على الاشمئزاز كمؤثر، فأخذ القوطية إلى تحوّرات عدة مثل أفلام هامر لاحقًا و”سلاشر” فيلم، كصنف في التقطيع والتجسيد الدموي، كأفلام “ساو” ومجزرة تكساس. فغذّى الرعب كصنف أشبه ما يكون بمنفصل عن عناصر القوطية الكلاسيكية من قلاع وأسياد ومصاصي دماء. أما الخوف فقط فخط العديد من الأفلام والقصص المعتمدة على الإثارة النفسية وانعكاس الخوف على الشخصيات عوضًا عن تصوير الوحوش أحيانًا، مثل أفلام “المكان الهادئ” و”صندوق العصفور” و”طابت ليلتك أمي” وغيرها من التصويرات التي “تخفي” الوحوش وعنصر الخوف المجسد عمدًا؛ لتطلق خيالنا في تخيُّل ما قد يُخيفنا مثل تلك الشخصيات.
لكنها أفلام ابتعدت عن منظور رادكليف الأخلاقي واعتمدت الأسلوب كتشويق في السرديات. هذا لا يعني أن التوجُّهين لا يلتقيان كعناصر في الوقت المُعاصِر ما يخلق رُعبًا نفسيًّا ودمويًّا، وهو ما يعد أثقل أنواع الرعب كألعاب «التل الصامت» مثلًا؛ حيث دمجت كلا الأسلوبين بطريقة فعالة. وهنا يظهر أهمية كتابة السردية القوطية بما يخدم السرد سواء رعب أو خوف عوضًا عمّا قد يجعل العمل يُصنَّف على أهرام أدبية قد هُرِمت وانتُقِدت.
المصدر: سوليوود