آراء

سحر الكتابة وخلودها

جمال أبو الحسن

شخص ما عاش فى بلاد ما بين النهرين (العراق اليوم) منذ 5500 عام تفتق ذهنه عن اختراع عجيب: الكتابة. ربما ظهر هذا الاختراع المُذهل فى الوقت نفسه تقريبًا فى مصر. ما نعرفه على وجه اليقين أن الكتابة لم تُخترع مرة واحدة، وإنما أكثر من مرة. الصين اخترعت الكتابة بشكل مستقل. لا نعرف متى حدث هذا بالضبط. الأغلب أن الصين توصلت إلى الاختراع العبقرى فى وقتٍ ما فى الألفية الثانية قبل الميلاد. الأكثر إثارة أن الكتابة اختُرعت أيضًا على نحو مستقل تمامًا فى أمريكا الوسطى فى ظل حضارة المايا. شىءٌ ما، على ما يبدو، يدفع البشر عند نقطة معينة من تكاثف التركيب فى مجتمعاتهم، إلى ابتداع هذه الأداة العجيبة التى تُوفر ذاكرة خارج الدماغ. أغلب الظن أن الكتابة ظهرت فى الأصل كأداة محاسبية لإحصاء الأشياء، من الماشية والشعير والخبز وأعداد الجند، بعد أن تزايدت أعداد الأشياء على نحو يجعل من المستحيل الاعتماد على الذاكرة البشرية وحدها فى تسجيلها. على أن هناك اليوم ما يُشير إلى أن «فكرة الكتابة» ربما تكون قد ظهرت فى وقت أقدم من ذلك!

منذ أيام قلائل، وبالتحديد فى 5 يناير، ظهرت دارسة مذهلة لعدد من الباحثين فى الآثار القديمة (على رأسهم البروفيسور Paul Pettit من جامعة ديرهام البريطانية الشهيرة)، تعيد قلب تاريخ الكتابة رأسًا على عقب. الدراسة تشير إلى أن نماذج بدائية من الكتابة ظهرت فى وقتٍ أقدم بكثير جدًا مما كان يُعتقد سابقًا. عكف هؤلاء العلماء على دراسة ما يُعرف بـ«فن الكهوف». هذا الفن عبارة عن رسومٍ فى باطن كهوف، أغلبها فى أوروبا (أشهرها «شوفيه» فى أوروبا، و«لاسجو» فى إسبانيا) تعود إلى ما يربو على ثلاثين ألف عام مضت، أى فى عمق عصور الجليد، والعصر الحجرى القديم. تصور رسوم الكهوف نماذج مختلفة من عالم إنسان العصر الحجرى لحيوانات، مثل الثيران والغزلان البرية والماموث. عندما شاهد الفنان الأشهر «بيكاسو» هذه الرسوم صعقته جمالياتها، وبراعة الفنانين القدماء الذين أتقنوا تصوير حركة الحيوانات. هتف قائلًا: «نحن لم نتعلم شيئًا!». على أن هذه الرسوم، كما تبين لفريق الباحثين المُشار إليه، كانت تحوى أيضًا أسرارًا مذهلة بخلاف الفن التصويرى.

حول الرسوم وإلى جوارها، تناثرت علامات ونقاط احتار العلماء كثيرًا فى تفسير كُنهها، أو الوقوف على دلاتها. ثمة رمز متكرر على سبيل المثال يُشبه الحرف (Y)، فضلًا عن رموز مختلفة بدت بلا رابط. ساد الاعتقاد زمنًا طويلًا أن هذه العلامات والنقاط ليست سوى رتوش عشوائية. فسر البعض النقاط ببقع دمٍ أراد الفنان القديم الإشارة إلى أنها تخرج من فم الحيوان. غير أن فريق الباحثين ذهب إلى ما هو أبعد من ذلك فى «كسر شفرة» هذه العلامات والرموز الغامضة. لقد عكف الفريق على دراسة 600 موقع فى أوروبا تحوى مثل هذه الرسوم والعلامات حولها. فى النهاية توصلوا، وعلى نحو قاطع، إلى أنها ليست عشوائية على الإطلاق. هى تشير إلى شىء محدد له علاقة بالحيوانات المصورة. إنها تُشبه «تقويمًا بدائيًا» يتعلق بموسم التزاوج لهذه الثيران والغزلان. «نقطة الأساس» فى هذا التقويم الذى يعود للعصور الجليدية لا ترتبط بالشمس، ذلك أن الشمس ليست لها أهمية كبيرة فى حياة إنسان العصر الحجرى، كما هى فى حياة إنسان عصر الزراعة. نقطة الأساس هى موسم الربيع! نعم.. فى موسم الربيع يبدأ الجليد فى الذوبان وتتدفق الأنهار. الرموز تُشير إلى حساب موسم التزاوج لدى هذه الحيوانات، وهو ذاته الموسم الذى يُمكن استغلاله للصيد الوفير. النقاط تشير إلى حساب عدد الشهور بعد فصل الربيع. عندما نرى أربع نقاط، مثلًا، إلى جوار ثور.. نعرف أن هذا الحيوان يتزاوج بعد أربعة شهور من بدء موسم الربيع. أما الرمز (Y) فربما يرمز إلى معنى التكاثر: انقسام الواحد إلى اثنين، أو إلى حالة الأنثى عند الوضع!

لو صح هذا الاكتشاف المذهل، وأغلب الظن أنه صحيح لأن الرموز انطبقت وفق هذا التفسير فى 600 موقع، فنحن أمام ما يُشبه ثورة تُعيد قلب الحقائق الثابتة والمستقرة عن تاريخ الكتابة وقصة البشر معها. لقد بدأ هذا التاريخ، والحال هذه، عند نقطة أبعد كثيرًا مما كان العلماء يظنون. نقطة تعود إلى 12- 22 ألف عام مضت! الكتابة، فى صورتها البدائية هذه، انطلقت فى وقتٍ ما فى قلب العصر الجليدى، والعصر الحجرى القديم. أى أنها تكنولوجيا مصاحبة لجماعتنا البشرية منذ العصور السحيقة بكل ما تحمله الكلمة من معنى.

إن قصة الكتابة هى، فى واقع الأمر، قصتنا مع الحضارة. ليس صدفة أن ظهور هذا الاختراع كان مصاحبًا لظهور المدنية والدولة. صعبٌ للغاية أن تقوم دولة مركبة من دون نظام معين للكتابة لأن البيروقراطية ترتكز أساسًا على هذه التكنولوجيا الخطيرة التى تجعل من الدولة كائنًا حيًا عمره أطول كثيرًا من أعمار البشر. نعم.. الكتابة هى «ذاكرة الدولة». الأرشيف هو عماد البيروقراطية وسلاحها السرى القاهر، من زمن المدن الأولى على ضفاف دجلة والفرات والنيل، وحتى يومنا الحاضر.

نحن أيضًا نحيا بالقصص. النسيج الرابط للمجتمع البشرى مصنوع من مادة القصص المشتركة التى يعرفها أبناء المجتمع الواحد أو يؤمنون بها. القصص يُمكن أن يجرى تناقلها شفاهةً بالطبع، وهكذا جرى تناقل القصص والأساطير عبر آلاف السنين. على أن تسجيل القصص باستخدام تكنولوجيا الكتابة يمنحها ديمومة تقترب من الخلود. فى كتاب «العالم المكتوب: تأثير القصص فى تشكيل البشر والتاريخ والحضارات» (تأليف مارتن كوبنر، أستاذ الأدب الإنجليزى بجامعة هارفارد، وترجمة «نوف الميمونى»، والصادر عن دار أثر فى 2021) يُمكن للقارئ- على نحو بديع وآسر- متابعة «قصة الكتابة» وعلاقتها بالخلود ودورها المذهل فى قصة البشر. يقول المؤلف: «لم يولد الأدب إلا عندما تقاطعت رواية القصص مع الكتابة، وفى نفس السياق كانت رواية القصص منحصرة فى الثقافات الشفهية، ولها قواعد وأغراض مختلفة، ولكن عندما ارتبطت رواية القصص بالكتابة.. بزغ الأدب مُشكِلًا قوةً جديدة».

الكتاب يتتبع القصص العجيبة التى رواها البشر وصنعت تاريخهم، والتى طفقوا يسجلونها باستخدام هذه التكنولوجيا الساحرة. هو يتتبع الحكايات التى شُغف بها الناس عبر آلاف السنين وملأت عالمهم وجعلت من الإنسان كائنًا يعيش فى الخيال وفى القصة والأسطورة، بخلاف أى كائن آخر. إنها قصص بعضها اندثر وطواه النسيان، مثل ملحمة جلجامش التى كُتبت على ألواح الطين، وجمعها ملك آشورى مغرم بالكتابة هو «آشور بانيبال» (وصل إلى الحكم فى نينوى فى 668 ق.م)، ثم كان أن بُعثت للحياة من جديد بعد أن كُشف سرها فى القرن التاسع عشر. أو هى قصص أخرى لها طابع معاصر، مثل «البيان الشيوعى» الذى كتبه ماركس وإنجلز فى 1848م، ولم يكن له تأثير يُذكر فى العالم لسبعين عامًا تالية، قبل أن يُغير الدنيا كلها باندلاع الثورة الروسية، واستيلاء الشيوعيين على الحكم وإقامة الاتحاد السوفيتى. هذا النص- وهو بالفعل يُشبه قصة محكمة ومحبوكة- انزوى بدوره، وصار اليوم «نصًا أثريًا»!

يتتبع الكتاب أيضًا تكنولوجيا الكتابة نفسها، مبرزًا الروابط المذهلة بين طبيعة القصص التى نرويها وطبيعة التكنولوجيا التى نستخدمها فى التدوين والنشر. ثورات الكتابة، كما يذكرها الكتاب، ثلاث: ثورة الأبجدية (فى الشرق الأوسط وبلاد اليونان)، والتى سهلت على البشر إتقان الكتابة ورفعت نسبة القراءة والكتابة فى المجتمعات، والثورة الورقية فى الصين ثم فى العالم الإسلامى، ثم ثورة الطباعة التى نشأت فى شرق آسيا، ثم انتقلت إلى شمال أوروبا

المصدر
المصري اليوم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى