متلازمة الفتات المعرفي
عمر غازي
كلما فتحنا هواتفنا نعيش المشهد نفسه تقريبًا، إصبع يتحرك بلا وعي على شاشة صغيرة، ينتقل بين مقطع قصير وآخر أقصر، اقتباس مبتور من كتاب لا نعرف عنوانه، خلاصة متعجلة لدراسة لم يقرأها من يعرضها، رأي حاد فوق جملة يتيمة من سياق طويل، ومع الوقت يتحول ما نستهلكه إلى فتات متفرق من المعاني، شظايا من معرفة لا تكتمل ولا تستقر، هنا تولد ما أسميه متلازمة الفتات المعرفي (Knowledge Crumbs Syndrome)، حالة يعيش فيها الإنسان على بقايا معرفة أنتجها غيره ثم أُعيد إخراجها مختزلة ومنزوعة من سياقها مرات عديدة حتى فقدت معظم قيمتها الأصلية.
تقارير معهد رويترز لدراسة الصحافة في جامعة أكسفورد أوضحت في نسخ متتابعة أن اعتماد الناس على المنصات الرقمية كمصدر أول للأخبار والمعلومات يتزايد عامًا بعد عام، وأن نسبة كبيرة من الشباب باتت تفضّل الفيديو القصير على المقال المطول، وتفضّل التمرير على القراءة الجادة، وأن جزءًا معتبرًا من البالغين في عدد من الدول يحصلون على الأخبار أساسًا من الشبكات الاجتماعية لا من المواقع الأصلية أو الصحف أو الكتب، ومعنى هذا أن الطريق إلى المعرفة يمر في الغالب عبر وسيط بشري جديد هو صانع المحتوى، لا عبر المؤلف أو الباحث أو الصحفي الذي وُلد النص الأول في بيئة أكثر انضباطًا.
في الأدبيات الغربية ظهرت مبكرًا مصطلحات تمسك بجانب من المشكلة ولكنها لا تستوعبها كلها، وُصف الفيض المعلوماتي مثلًا بمصطلح فرط المعلوماتية (information overload) حين تصبح كمية المدخلات أكبر من قدرة الإنسان على الفهم واتخاذ القرار، ثم ظهرت تعبيرات مثل السمنة المعلوماتية (infobesity) والتلوث المعلوماتي (information pollution) والضباب البياني (data smog) للتعبير عن التخمة والضباب الذي يحيط بنا نتيجة تدفق البيانات بلا ترتيب ولا غربلة، هذه المصطلحات تركز على الكم المرهق، على أن المشكلة في كثرة ما يصلنا من معلومات أكثر مما نحتمل، لكنها لا تمسك بعد بجوهر الفتات المعرفي الذي لا يتعلق فقط بالكثرة بل بطبيعة ما يصل إلينا وكيفية إنتاجه وإعادة تدويره.
ومع صعود المنصات الاجتماعية ظهرت طبقة أخرى من الوصف، صار يُشار إلى التمرير المستمر لأخبار سلبية بمصطلح التمرير الكئيب (doomscrolling)، وإلى نمط التقاط الأخبار في لقيمات قصيرة بمصطلح الوجبات الإخبارية الخفيفة (news snacking)، وتحدثت دراسات عديدة بعد جائحة كورونا عن ارتباط هذه السلوكيات بارتفاع أعراض القلق والاكتئاب لدى من يجعلون هواتفهم المصدر الرئيسي لمتابعة ما يجري، غير أن هذه المصطلحات ما زالت تدور حول أثر الجرعة وطبيعة المزاج، ولا تصف بعد الدائرة الكاملة التي يدخل فيها النص العميق من باب ويخرج من باب آخر وقد تحول إلى فتات لا يكاد يحتفظ بشيء من الأصل.
متلازمة الفتات المعرفي تختلف عن هذه الظواهر في نقطة جوهرية، فهي لا تصف فقط حالة المتلقي الذي يغرق في كم كبير من المعلومات، بل تصف منظومة كاملة من الإنتاج والاستهلاك المعرفي في عصر المنصات، دائرة تبدأ من كتاب متين أو دراسة علمية أو تجربة ميدانية، ثم يلتقطها شخص أول فيختصرها لقرائه، ويأتي ثانٍ فيختصر اختصار الأول، وثالث يعيد إنتاج ما اختصره الثاني في قالب بصري سريع، ورابع يقتبس جملة واحدة من كل ذلك ويضعها على خلفية ملونة، ومع كل طبقة إعادة تدوير يبتعد المحتوى خطوة جديدة عن سياقه الأصلي، حتى يتحول في النهاية إلى فتات معرفي يستهلكه الآلاف أو الملايين دون أن يعرفوا من أين جاء ولا على أي أساس بُني.
في قلب هذه المتلازمة يقف صانع محتوى لا يرى في الفكرة إلا صداقتها للخوارزمية، لا يعنيه السياق الذي خرجت فيه ولا الأسئلة التي حاولت الإجابة عنها ولا حدود صلاحيتها، لا يمسك بالكتاب ولا بالورقة العلمية ولا بالتقرير الكامل، ولا يكلّف نفسه عناء التحقق من المنهج أو فهم المصطلحات، كل ما يهمه أن هذه الجملة أو تلك الفكرة أثبتت في مكان آخر أنها ترند تجلب مشاهدات وإعجابات وأرباحًا، فيسحبها من سياقها، يلبسها صوته وصورته، ويخرج بها إلى الناس على أنها خلاصة خبرة أو نتيجة بحث، بينما أقصى ما قام به هو التقاط ما مر أمامه في خط الزمن وإعادة ترتيبه بما يناسب إيقاع المنصة.
دراسات الإعلام الرقمي التي تناولت ظواهر مثل فقاعات الترشيح (filter bubbles) وغرف الصدى (echo chambers) وإرهاق وسائل التواصل الاجتماعي (social media fatigue) توضح كيف تضيق الدائرة حول المستخدم مع الوقت، المنصات تعيد تغذية كل شخص بما يوافق تفاعلاته السابقة، فيرى الفكرة ذاتها تعود إليه في عشرات الصيغ مع اختلاف طفيف في اللغة أو الصورة، فيتكون لديه انطباع بأنه يطالع عوالم متعددة بينما هو في الحقيقة يدور داخل غرفة واحدة يعاد فيها تدوير المعنى نفسه بلا انقطاع، ومع كل دورة يفقد المعنى بعض عمقه وبعض صدقه وبعض صلته بالأصل، ويتضخم في المقابل إحساس زائف بالمعرفة لأن الرأس ممتلئ بالأقوال والاقتباسات حتى لو لم يستطع صاحبها أن يربط بينها في خيط مفهوم واحد.
على مستوى المتلقي ينتج عن متلازمة الفتات المعرفي مزيج غريب من التخمة والفراغ في آن واحد، تخمة لأنه يتعرض يوميًا لعشرات أو مئات القطع المعرفية القصيرة من مقاطع ونصوص وصور، وفراغ لأنه لا يبني من كل ذلك فهمًا متماسكًا يمكن أن يستند إليه في قرار أو رأي أو تخصص، أشبه بمن يأكل طوال اليوم حلوى خفيفة ولا يجلس إلى وجبة حقيقية واحدة، فيشعر بالامتلاء دون قوة، وقد أشارت دراسات في مجلة علم سلوكيات الحاسب (Computers in Human Behavior) وغيرها إلى ارتباط الإفراط في استهلاك المحتوى عبر الهاتف بحالة من الإرهاق المعلوماتي والتشتت وتراجع القدرة على التركيز العميق.
أما على مستوى المجال العام فآثار المتلازمة لا تقل خطورة، تتحول القضايا الكبرى إلى عبارات جاهزة يسهل إعادة تدويرها، الذكاء الاصطناعي يُختزل في جمل متضادة من نوع سوف يقضي على الوظائف أو سوف ينقذ العالم، الاقتصاد في وصفات من ثلاث خطوات للثراء، التربية في شعار واحد عن أسلوب حاسم يصلح لكل الأطفال في كل البيئات، الدين في اقتباسات سريعة منفصلة عن سياقاتها التاريخية والفقهية، ومع كل اختزال من هذا النوع تسقط طبقات من التعقيد الضروري للفهم، ويختفي الجهد المعرفي المتراكم خلف صورة لامعة لشخص لم يقرأ إلا الفتات ثم يقدم نفسه خبيرًا في كل شيء.
مع ذلك لا تعني متلازمة الفتات المعرفي أن كل محتوى قصير عديم القيمة أو أن كل إعادة تبسيط خيانة للأصل، فهناك من يستخدم المقاطع القصيرة ليكون جسرًا بين الناس والمصادر الأولى، يذكر اسم الكتاب واسم الباحث والجامعة وسنة النشر، يوضح حدود الدراسة قبل نتائجها، ويدعو من يهتم إلى الرجوع إليها، وهناك من يختصر تجربة مهنية عاشها لسنوات في دقائق صادقة تعطي المتلقي مفاتيح حقيقية لا يمكن الاستهانة بها، الفرق أن نقطة البداية عند هؤلاء هي الأصل لا الصدى، والغاية هي نقل الفهم لا مطاردة أرقام المشاهدات فقط حتى لو كانت الخوارزميات أقل سخاء معهم.
إذا أردنا التعامل مع هذه المتلازمة بوصفها ظاهرة فكرية لا مجرد انزعاج شخصي من ضجيج المنصات فربما يلزمنا أن نحدد بدقة ما نعنيه بالفتات المعرفي، هو ليس أي تبسيط، بل هو إعادة إنتاج معرفي مختزل ومكرر، يقطع الفكرة عن سياقها، ويقدمها بلا تحقق من مصدرها ولا فهم لحدودها، ولا وعي بالخلفية التي خرجت منها، ويُنتج أساسًا استجابة لإشارات الخوارزميات عن الترند الرائج، لا استجابة لحاجة معرفية حقيقية، وهو بهذا المعنى يختلف عن التلخيص المسؤول الذي يعترف بمصادره ويحترم تعقيد موضوعه حتى وهو يبسّطه ويقرّبه لعامة القراء.
يبقى السؤال في النهاية سؤالًا فرديًا وجماعيًا في آن واحد، هل نرضى لأنفسنا أن نكون مجرد مستهلكين ومكررين للفتات المعرفي، نلتقط ما تقترحه علينا الخوارزميات ونمرره إلى غيرنا دون أن نضيف إليه شيئًا سوى صوت جديد وصورة جديدة، أم نقرر أن نقطع هذا المسار في نقطة ما، فنعود إلى الكتب والدراسات والتجارب الأولى، ثم نأتي إلى المنصة لنقدم للناس محتوى يعرف صاحبه من أين جاء وإلى أي سياق ينتمي، عندها فقط يمكن أن تتحول شاشاتنا من مخبأ للفتات إلى مائدة معرفة حقيقية، يختلف فيها طول النص والصورة لكن يجمعها احترام واحد لعقل من يقرأ أو يشاهد.



