كُتاب الترند العربي

ثقافة الكتمان.. لماذا نخفى تعبنا عن أقرب الناس؟

بخيت الواحي

فى زمن يعلو فيه ضجيج العالم على صوت الإنسان الداخلى، أصبحت ثقافة الكتمان واحدة من أكثر الظواهر الاجتماعية انتشارًا. لم يعد الصمت اختيارًا يتعلق بالخصوصية فقط، بل تحوّل إلى أسلوب حياة ودرع دفاعي يحمله الكثيرون خوفًا من جرح أو خذلان جديد.

نقول “تمام” بينما التفاصيل من الداخل تُنهكنا، ونضحك ونحن نحمل أسئلة لا تنتهى، ونرد بـ”ماشي” رغم أن الطريق من داخلنا مُعطّل. لكن السؤال الحقيقى هو: لماذا نخفى تعبنا عن أقرب الناس؟

السبب الأول هو الخوف من الشماتة. أصبح التعب عند بعض الناس فرصة للشعور بالتفوق أو التعليق أو الانتقاد، مما يدفع الكثيرين إلى إخفاء وجعهم حتى لا يتحول إلى مادة حديث أو سلاح يُستخدم ضدهم. لذا كان الحل الأكثر أمانًا هو الصمت.

إلى جانب ذلك، فقدت العلاقات الاجتماعية جزءًا كبيرًا من عمقها القديم. ازدادت الدوائر واتسعت المعارف، لكن الأمان قلّ. صار الإنسان يسأل نفسه: “أحكى لمين؟ ومين هيهتم بجد؟” سرعة الحياة والانشغال المستمر جعلا الكثير يشعرون بأنهم وحدهم حتى وسط أقرب الناس.

هناك أيضًا ضغط ثقافى راسخ يربط بين التعب والضعف. تربّينا على أن البكاء هزيمة، والشكوى نقص، والاعتراف بالوجع علامة على أننا “مش قد الدنيا”. هذه التربية صنعت أجيالًا تخفى ما تشعر به حتى لا تبدو أقل قوة، حتى لو كان الثمن ثقيلًا على النفس.

ويأتى الخوف من الحكم ليزيد الأمر تعقيدًا. كثيرون يخشون أن يُنظر إليهم باعتبارهم حساسين أو مبالغين أو غير قادرين على التحمل. فيتحول الصمت إلى آلية دفاعية تمنع أى كلمة صادقة من الخروج، بينما يتراكم الضغط الداخلى يومًا بعد يوم.

أحيانًا لا يكون الكتمان خوفًا من الناس، بل محاولة لحماية الآخرين. هناك من لا يريد إرهاق أحبائه بمشاكله، وهناك من فقد الأمل فى أن الكلام قد يغيّر شيئًا، وهناك من يرى أن المواجهة وحدها هى الطريق الأقل ألمًا.

لكن بعد كل هذا، يبقى الأكيد أن التعب الذى لا يُقال لا يختفى. بل يتحول ببطء إلى عزلة صامتة، وضغط نفسى، ووجع أكبر من قدرة الإنسان على احتماله. فالصمت لا يشفى، بل يؤجل الانهيار

الحقيقة البسيطة التى نتجاهلها هى أن الإنسان لا يُشفى وحده. لسنا مطالبين بأن نحكى للجميع، ولكننا بحاجة إلى شخص واحد على الأقل نكون أمامه كما نحن، بلا خوف ولا أقنعة. الاعتراف بالتعب ليس نقطة ضعف، بل بداية التعافى. والكلام ليس كشفًا للجرح، بل بداية تضميده.

… فكأنما قلبى يُنادى وهو صامت  وجراحُ صوتى لا تُرى.

بخيت الواحى مدرب وباحث بالمجلس القومى لحقوق الإنسان

المصدر: اليوم السابع

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى