عمر غازي

معضلة القنفذ

معضلة القنفذ

عمر غازي

في شتاء أحد الأيام، لاحظ الفيلسوف الألماني شوبنهاور مشهدًا بسيطًا لقنافذ تحاول الاحتماء من البرد بالاقتراب من بعضها، لكنها كلما اقتربت أكثر وخزت بعضها البعض، فتعود لتبتعد ثم يشتد البرد فتعيد المحاولة ثم تعاود التراجع، هذا المشهد رغم بساطته تحوّل إلى استعارة فلسفية عميقة عن العلاقات البشرية، وعن التوازن الحرج بين القرب المؤلم والبعد القاتل، تلك اللحظة التي نرغب فيها بالدفء لكن نخشى أن نحترق.

الفكرة ليست جديدة، ولكنها تعود للواجهة مع كل علاقة تنهار رغم الحب، وكل صداقة تتآكل رغم المودة، وكل زواج يتحول إلى مساحة من الاحتراق الصامت، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة شيكاغو عام 2020 أن 62% من الأزواج الذين أنهوا علاقاتهم أفادوا بأن سبب الانفصال لم يكن خيانة أو كراهية بل “كثرة الاحتكاك”، أو كما وصفه البعض: “كنا قريبين أكثر من اللازم”، وكأن العلاقات لا تنهار دائمًا بسبب نقص الحب بل أحيانًا بسبب فائضه.

شوبنهاور لم يكن وحده من التفت لهذه المفارقة، فقد استخدمها سيغموند فرويد لاحقًا ليشرح التوتر في العلاقات بين الحميمية والخوف من التعرّي العاطفي، فكلما اقتربنا من الآخر انكشفت هشاشتنا وظهرت توقعاتنا وأصبحنا أكثر عرضة للأذى، ليس لأن الآخر مؤذٍ بطبعه بل لأن القرب يُسقط أقنعتنا ويكشف زوايانا الحادة، تلك الأشواك التي نخفيها عن العالم في المسافة الآمنة.

المفارقة أن هذا الحذر لا يحمينا بل يتركنا في عزلة باردة، فبحسب دراسة نشرتها جامعة هارفارد عام 2021 فإن الأشخاص الذين يحافظون على مسافة عاطفية من الآخرين خوفًا من الألم يعانون من معدلات اكتئاب أعلى بنسبة 45% مقارنة بأولئك الذين يخوضون علاقات حتى وإن انتهت بخيبة، فالعزلة لا تحمي بل تجمّد، وغياب الألم لا يعني وجود الراحة بل موت الشعور تدريجيًا.

الناس مثل القنافذ لا يملكون الخيار في الرغبة بالتقارب، فالغريزة البشرية تدفعنا نحو الآخر، نبحث عن من يسمعنا ومن يشعر بنا ومن يلمسنا دون أن نخاف أن يُجرح إصبعه أو نخسر وجهنا، لكننا نُخفق حين ننسى أن القرب لا يعني الذوبان، وأن العلاقة الصحية لا تُبنى على ذوبان أحد الطرفين في الآخر بل على وجود مساحة مشتركة ومسافة تحترم اختلافاتنا دون أن تحولنا إلى خصوم.

ويبقى السؤال: هل نستطيع أن نكون قريبين دون أن نؤذي؟ أم أن العلاقات كمعضلة القنفذ محكومة أبدًا بأن تكون توازنًا هشًا بين دفء القرب ووخز المسافة؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى