
قربٌ بطعم الغياب
محمود عبدالراضي
ليس كل من اقترب، أتى ليُخفّف، وليس كل من سأل، أراد لك الخير، فثمّة اقتراب لا يحمل دفء المواساة، بل برودة التشفّي، وهناك من يقترب لا ليُضمّد، بل ليتأكّد أن الجرح ما زال نازفًا.
في لحظة ألمك، حين تنكمش على ذاتك كما تنكمش الأرض في عزّ الجفاف، تفاجأ بمن يطرق بابك لا ليسقيك، بل ليتفرّج على تصدّعاتك، يبتسم لك، نعم، يربّت على كتفك ربما، لكن قلبه في مكانٍ آخر، يهمس داخله: “الحمد لله، لا زال يتألم.”
إنه ذلك النوع من البشر الذين يتغذّون على ضعف غيرهم، لا يفرحون لسقوطك علنًا، لكنهم لا يخفون ارتياحهم الخفي حين يشعرون أنك لم تتجاوز، أنك ما زلت هناك في قاع الحزن، تلوّح للفرح ولا تلامسه.
إنهم لا يسألونك: “هل أنت بخير؟” لأنهم يريدون الخير لك، بل لأنهم يخشون أن تكون قد أصبحت بخير! فشفاؤك يهدّد وجودهم حولك، ويجفف ماء فضولهم الذي لا يرتوي.
وهناك نوع آخر، أكثر دهاءً، يقترب بوجه المُواسي، وكلمات العزاء، لكنه يزرع بين السطور ملحًا يُعيد فتح الجرح، يذكّرك بما نسيت، ويُنقّب في ذاكرة ألمك عن مشاهد كنت قد قررت طيّها، هو لا يُعينك على النسيان، بل يُعيد بثّ الألم بتقنية “الواقع العالي”.
في غمرة الحزن، لا تفرح بمن اقترب فجأة، لا تنخدع بمن حضر بعد الغياب، فالنية لا تُقرأ من الخطوات، بل من أثرها، واسأل نفسك دائمًا: هل خفَّ حملي بعد زيارتهم؟ أم أثقلوني بلُطفٍ مريب؟
ثم لا تَحزن، فالنفوس كالمعادن، لا تكشفها المصافحة، بل الاحتكاك، والمواقف كاشفة، لا تحتاج عدسة مُكبّرة، مع الوقت، ستُميّز من اقترب ليُعين، ومن اقترب ليُدين، من مسح دمعتك لتجف، ومن مسحها ليعرف هل ما زلت تبكي.
حافظ على قلبك، لا تفتحه لأي طارقٍ يتقن فنّ الشفقة المزيّفة، وعلّم نفسك أن العُزلة، أحيانًا، أحنّ من الحضور المسموم، فمن أرادك حقًا، لن يفرح لألمك، ولن يسألك عنه ليطمئن أنه ما زال هناك.
اقتربوا بصدق.. أو لا تقتربوا أبدًا.
المصدر: اليوم السابع