عمر غازي

التافه يفوز

عمر غازي

في عام 2015، رفضت إحدى أشهر الجامعات الأوروبية منح تمويل لأحد أهم الباحثين في علم الأعصاب، رغم أن بحثه كان مرشحًا لجائزة نوبل، بينما مُنحت نفس المنحة لمشروع تجميلي تديره مؤثرة على وسائل التواصل الاجتماعي، كان عنوانه الأبرز: “أثر أدوات التجميل على الثقة بالنفس”، وهذه الحادثة لم تكن مجرد مفارقة بيروقراطية، بل تعكس خللاً عميقًا في الأولويات: حين تُحتقر العقول ويُحتفى بالمظاهر، تسقط الحضارات بلا طلقة.

المعلم، الذي كان يومًا حامل النور في عتمة الجهل، أصبح يُعامل في كثير من المجتمعات بوصفه مجرد موظف خامل، مهنته لا تُدر دخلًا، وصوته لا يُسمع إلا في الفصول المكتظة. الطبيب، الذي كانت يداه تُنقذ الأرواح، بات يُهان في طوارئ مزدحمة، يُحاسَب على تأخر الدواء، ويتلقى اللوم قبل الشكر. والعالِم، الذي يسهر في المعامل ليبني مستقبلنا، يهاجر بصمت بعد أن سُلبت منه هيبته، وباتت أفكاره تُقابل بالريبة أو السخرية.

فبحسب تقرير صادر عن منظمة اليونسكو عام 2022، فإن 72% من العلماء في دول العالم الثالث يشعرون بعدم التقدير المجتمعي، وأن أكثر من نصفهم يفكرون بالهجرة إلى بيئات أكثر احترامًا للعلم والبحث. وفي دراسة أخرى أجرتها جامعة ستانفورد، تبين أن المجتمعات التي تُهمّش التعليم والعلماء تُعاني على المدى الطويل من ارتفاع معدل الفقر، وتدني مؤشرات الابتكار والنمو.

لكن الكارثة لا تقف هنا، بل تبدأ حين يصبح التافه أيقونة، يُصفَّق له، وتُنسخ تفاهته، ويُمنح المنصات وصدارة الحديث، بينما يرزح المفكر تحت وطأة التهميش، حين يصبح الصوت العالي بديلًا عن الفكرة العميقة، والرقص بديلًا عن الإنجاز، والسخرية أهم من الحكمة. حينها، تنهار المجتمعات من الداخل، ليس بفعل الحروب، بل بخيانة القيم.

والمفارقة أن الحضارات لا تنهار فجأة، بل تتآكل ببطء، حين تستبدل القدوة بالسخافة، والمكانة بالضجيج، والعلم بالزيف. حين يصبح من المألوف أن تُهان القامات ويُحتفى بالصغار، فإن السؤال لا يعود: متى تسقط هذه الأمة؟ بل: لماذا لم تسقط بعد؟

وها هنا السؤال الذي لا يجب أن نغفله: كيف تُبنى أمة تضع التافه في القمة وتدفع العالِم خارج الحدود؟ وهل يمكن لوطنٍ يحتقر المعلم ويذل الطبيب ويهين العالِم أن يُعوَّل عليه في نهضة أو بقاء؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى