العيش في الماضي

العيش في الماضي
عمر غازي
في دراسة نشرتها جامعة كامبريدج عام 2019، أُجريت على أكثر من 2000 شخص من مختلف الفئات العمرية، تبين أن الأشخاص الذين يتمسكون بذكريات الماضي كمرجع رئيسي في حياتهم اليومية، يعانون من مستويات أعلى بنسبة 40% من القلق والاكتئاب مقارنة بمن يوجهون تركيزهم نحو الحاضر والمستقبل، لم تكن المشكلة في الذكريات نفسها، بل في الاستسلام لها وكأنها كانت أجمل ما سيحدث في الحياة، وما تبقى بعد ذلك مجرد ظلال باهتة.
العيش في الماضي ليس حالة وجدانية بريئة كما يتخيل البعض، بل هو فخ نفسي ناعم يسرق من الإنسان حاضره دون أن يدرك، وحين يتحول الماضي إلى ملجأ دائم، يصبح العقل سجينًا لزمن لا يعود، ويبدأ المرء في مقارنة كل لحظة جديدة بما مضى، فيحكم عليها بالفشل حتى قبل أن يعيشها.
هذه الظاهرة ليست حكرًا على كبار السن أو المتقاعدين، بل تمتد إلى الشباب، بل وإلى أولئك الذين لم يخسروا شيئًا سوى وهم التوقعات، حيث أظهرت دراسة صادرة عن جامعة ستانفورد عام 2021 أن 53% من الأشخاص الذين يمرّون بتجربة انفصال عاطفي أو فشل مهني، يعيدون بناء تصوراتهم عن أنفسهم من خلال استحضار لحظات مثالية من الماضي، بدلًا من مراجعة واقعهم وتطويره، وكأن الماضي صار المعيار الوحيد للصواب، وما عداه خيانة أو تقصير.
حتى على المستوى الجماعي، فإن الشعوب التي تعيش على مجد تاريخها فقط دون تجديد، تميل إلى التراجع أكثر من غيرها، حيث يشير تقرير صادر عن البنك الدولي عام 2022 إلى أن الدول التي تبني خططها التنموية على تجارب حديثة قابلة للتطوير تحقق معدلات نمو أعلى بـ 28% من تلك التي تستند فقط إلى موروثاتها الثقافية والتاريخية، فالتاريخ لا يجب أن يكون عبئًا، بل مصدر إلهام يتجدد لا قيدًا يشدنا إلى الخلف.
السؤال الذي يفرض نفسه: لماذا نتمسك بالماضي؟ ربما لأنه كان خاليًا من الفواتير، من المسؤوليات، من خيبات التجربة، وربما لأن ذاكرتنا الانتقائية تميل إلى تلميع ما مضى، وطمس ما يؤلم، لكن الحقيقة أن الحنين حين يتحول إلى أسلوب حياة، يعطل الإنسان عن الاستفادة من حاضره وصناعة مستقبله.
العيش في الماضي قد يمنحك لحظة دفء عابرة، لكنه لا يمنحك حياة، والمشكلة ليست في الذكرى، بل في البقاء داخلها، كأنك تخاف من أن تكون نسخة أفضل مما كنت، أو أن تعترف أن ما سيأتي قد يكون أجمل مما مضى، فهل نمتلك الشجاعة لنغلق أبواب الماضي بإحكام وننظر في أعين أيامنا المقبلة بثقة؟ أم سنظل نعود إلى الوراء كلما ضاقت بنا المساحة؟