عمر غازي

الأخوة الأعداء

عمر غازي

في عام 1995، اجتمع قادة الهند وباكستان على طاولة المفاوضات في محاولة لتخفيف التوتر الذي استمر لعقود، كانت القاعتان مفصولتين بإجراءات أمنية مشددة، وفي الخلفية، كان المسؤولون يتبادلون كلمات دبلوماسية حذرة، لكن خلف الكواليس، كانت العلاقة مختلفة تمامًا، إذ أن أحد القادة أمر فريقه بعدم مصافحة الوفد الآخر، بينما كان المسؤولون في كلا الجانبين يتجسسون على تحركات بعضهم البعض، اللقاء انتهى بمصافحات إعلامية مبتسمة، لكن على أرض الواقع، لم تتغير الأمور كثيرًا، بل زاد التوتر بعد سنوات في نزاعات حدودية جديدة، هذه الصورة تلخص واقع “الأخوة الأعداء”، حيث تتشابك العلاقات التاريخية بين الدول، فتخلق خليطًا معقدًا من المصالح المشتركة والعداوات المتجذرة.

التناقض في العلاقات بين الدول ذات الجذور المشتركة ليس حالة فريدة، فالهند وباكستان، رغم أنهما كانتا دولة واحدة قبل عام 1947، خاضتا ثلاث حروب كبرى وعشرات المواجهات العسكرية، بينما العلاقات التجارية بينهما شهدت فترات ازدهار، مما يعكس ذلك الانفصام الذي يجعل بعض الدول عالقة بين الإخاء والعداء، الأمر لا يقتصر على هذه الحالة، ففي أوروبا، نجد أن فرنسا وألمانيا، رغم كونهما من أقوى حلفاء الاتحاد الأوروبي اليوم، خاضتا حربين عالميتين في القرن العشرين، قتل فيهما الملايين، قبل أن تتجاوزا العداوة التاريخية لصالح شراكة اقتصادية متينة، لكن ما يلفت الانتباه هو أن الشعوب لم تقطع روابطها بالكامل، فالفرنسيون والألمان كانوا يتاجرون ويتزاوجون حتى في أوقات التوترات السياسية، وكأن العلاقات بين الأفراد تسبق وتتفوق على حسابات الساسة.

ولا يختلف المشهد كثيرًا في القرن الإفريقي، حيث تعكس العلاقة بين إثيوبيا والصومال هذا التناقض ذاته، فالصوماليون والإثيوبيون تربطهم علاقات تاريخية تمتد لقرون، ومع ذلك، فإن الصراعات بين البلدين لم تتوقف، بداية من الحروب التي خاضها السلاطين الصوماليون ضد الإمبراطوريات الإثيوبية في القرن السادس عشر، وصولًا إلى النزاع على إقليم أوغادين في السبعينيات، فإثيوبيا، رغم كونها جارًا للصومال، كانت دائمًا عاملاً مؤثرًا في أزماته الداخلية، سواء من خلال التدخلات العسكرية المباشرة، أو دعم أطراف متصارعة داخل البلاد، وفي المقابل، بقيت الصومال تنظر إلى إثيوبيا كدولة توسعية تهدد استقرارها، مما جعل العلاقات بينهما تدور في دائرة مغلقة من العداء المتبادل رغم المصالح المشتركة، لكن حتى في ظل التوتر، لم ينقطع التواصل بين الشعبين، فالصوماليون يقيمون في إثيوبيا ويعملون فيها، والإثيوبيون يجدون في الأسواق الصومالية ملاذًا تجاريًا مهمًا، وكأن السياسة تفشل دائمًا في عزل الشعوب عن بعضها.

وفقًا لدراسة أجرتها جامعة كامبريدج عام 2020، فإن 65% من النزاعات بين الدول تحدث بين جيران تجمعهم علاقات تاريخية مشتركة، ويرجع ذلك إلى التنافس على النفوذ الإقليمي أو الموارد أو حتى اختلاف التوجهات السياسية، هذه العداوات غالبًا ما تكون أعمق من النزاعات التقليدية، لأنها تحمل إرثًا طويلًا من الصراعات التي تتداخل فيها القومية والهوية والتاريخ، مما يجعل تجاوزها أكثر تعقيدًا، ورغم ذلك، فإن الدول التي تمكنت من استبدال العداء بالمصالح المشتركة، مثل فرنسا وألمانيا، حققت نموًا اقتصاديًا واستقرارًا سياسيًا أكبر مقارنة بالدول التي بقيت أسيرة للصراعات التاريخية، بل حتى على المستوى الشعبي، أظهرت دراسة أجرتها جامعة أوكسفورد عام 2021 أن 70% من سكان الدول التي تعيش صراعات طويلة لا يحملون عداء شخصيًا للشعوب الأخرى، بل يعتبرون التوترات نتيجة قرارات سياسية أكثر منها صراعات حتمية بين الأمم.

التاريخ مليء بالشعوب التي حُكم عليها بالتعايش رغم الخلافات، وحين تتوتر العلاقات السياسية، لا يتوقف الناس عن الزواج من بعضهم البعض، ولا تختفي الصداقات أو المصالح التجارية، وكأن الإنسان يرفض أن يكون أسيرًا للحدود السياسية، فحتى في أكثر النزاعات دموية، يظل التواصل بين الأفراد قائمًا، لأن الشعوب تفهم شيئًا بسيطًا قد تغفله الدول: المصالح المشتركة أقوى من العداوات العابرة، فالسؤال الذي يبقى: هل ستدرك الدول هذه الحقيقة يومًا ما، أم أن صراع الأخوة الأعداء سيظل دائرة مغلقة تعيد نفسها عبر الأجيال؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى