عمر غازيكُتاب الترند العربي

القوة التي لا تُرى.. تُستغل

عمر غازي

في عام 1940، عندما وقف ونستون تشرشل أمام البرلمان البريطاني وسط أعنف هجوم نازي، لم يكن يملك جيشًا أقوى من الألمان ولا اقتصادًا متفوقًا على خصومه، لكنه امتلك شيئًا آخر، امتلك القدرة على إظهار القوة، جعل الجميع يصدق أن بريطانيا لن تسقط، وأنها ستحارب في الشواطئ والشوارع والتلال حتى النهاية، لم يكن هذا مجرد خطاب، بل كان استعراضًا لقوة العزيمة قبل أن تكون معركة السلاح، لأن العالم لا يحترم الضعفاء، بل يبحث دائمًا عمن يمتلك القدرة على فرض احترامه.

في الحياة، كما في السياسة، لا يكفي أن تمتلك القوة، بل عليك أن تُظهرها، لأن القوة التي لا تُرى تُستغل، وهذا ليس مجرد افتراض، بل حقيقة تدعمها دراسات علم النفس والسلوك البشري، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2022 أن الأفراد الذين يعبرون عن ثقتهم بأنفسهم ويُظهرون موقفًا قويًا في بيئة العمل أكثر عرضة لتلقي الاحترام والتقدير بنسبة 70% مقارنة بمن يختارون إخفاء قوتهم والاعتماد على حسن النوايا فقط، هذه النتيجة ليست مفاجئة، لأن البشر يميلون بشكل غريزي إلى احترام من يمتلك السلطة على نفسه وعلى محيطه.

المجتمعات، مثل الأفراد، تحترم القوي، وتنتهز الفرصة للسيطرة على من يظهر ضعفه، الدول التي تفشل في إظهار قوتها تصبح هدفًا للاستغلال السياسي والاقتصادي، في دراسة نشرتها جامعة أكسفورد عام 2021، وُجد أن الدول التي تملك موارد ضخمة ولكنها لا تمتلك إرادة سياسية قوية تميل إلى أن تصبح مجرد مساحات نفوذ تتحكم فيها القوى الكبرى، بينما الدول التي تمتلك قيادة قادرة على استعراض القوة ولو بقدرات محدودة، تحافظ على سيادتها وتأثيرها الدولي.

في العلاقات الشخصية، القاعدة ذاتها تنطبق، كم مرة رأينا شخصًا يُعامل بازدراء لأنه لم يفرض حدوده منذ البداية؟ كم مرة رأينا موظفًا يُستغل في بيئة العمل لأنه لم يظهر قيمته الفعلية؟ في دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2019، تبيّن أن 60% من الموظفين الذين لا يطالبون بحقوقهم ولا يضعون حدودًا واضحة في أماكن عملهم يصبحون عرضة للاستغلال والتحميل الزائد مقارنة بأقرانهم الذين يُبدون موقفًا واضحًا منذ البداية.

لكن، هل يعني ذلك أن القوة يجب أن تكون صاخبة؟ ليس بالضرورة، فالأسد لا يزأر ليؤكد أنه ملك الغابة، لكنه لا يسمح لأي مخلوق أن يختبر حدوده، القوي ليس من يصرخ، بل من يُشعر الآخرين أن تجاوز حدوده له ثمن، القوي ليس من يستخدم قوته في كل موقف، بل من يكفيه حضوره ليضع الأمور في نصابها، فكما تقول الحكمة الصينية: “من يعرف كيف يستخدم السيف، لن يحتاج إلى إخراجه من غمده”.

السؤال الذي يبقى: هل القوة خيار أم ضرورة؟ وهل يمكن للإنسان أن يعيش في عالم مليء بالمصالح والتنافس دون أن يظهر قوته؟ ربما الإجابة تتضح عندما ندرك أن العالم لا يكافئ الطيبين بقدر ما يكافئ الأذكياء الذين يعرفون متى يظهرون قوتهم، لأن القوة التي لا تُرى تُستغل، وهذه الحقيقة لا تحتاج إلى مزيد من الإثبات، بل تحتاج إلى وعي أعمق بها.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى