عمر غازيكُتاب الترند العربي

المعرفة.. بين الحقيقة والتضليل

عمر غازي

في عام 2016، وقف عالم النفس جوردان بيترسون في قاعة محاضرات جامعة تورنتو، محذرًا طلابه من خطر المعرفة التي تُفرض بدلاً من أن تُكتسب، حيث أشار إلى أن المعلومات التي تصل إلينا اليوم ليست بالضرورة انعكاسًا للحقيقة، بل قد تكون نتاج توجيه إعلامي أو اقتصادي يخدم مصالح معينة، حينها سأله أحد الطلاب: “كيف يمكننا الوثوق بأي مصدر في عالم أصبح مليئًا بالتضليل؟”

لم يكن السؤال عبثيًا، ففي عصر أصبحت فيه المعلومة أكثر انتشارًا من أي وقت مضى، لم تعد المشكلة في الوصول إليها، بل في التحقق من صحتها، حيث أظهرت دراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2021 أن 58% من الأخبار والمعلومات المتداولة عبر وسائل التواصل الاجتماعي تكون مضللة أو غير دقيقة، وهو ما يعكس مدى سهولة اختراق عقول الناس بمعلومات غير موثوقة، مما يحوّل المتلقي من باحث عن الحقيقة إلى مجرد مستهلك سلبي للأفكار المشوهة.

التحولات التي طرأت على مصادر المعرفة لم تقتصر على الأخبار فحسب، بل شملت أيضًا كيفية التعلم واكتساب المعلومات، فوفقًا لدراسة أجرتها جامعة أكسفورد عام 2022، فإن 70% من الشباب يعتمدون على مقاطع الفيديو القصيرة كمصدر رئيسي للمعلومات، في حين أن 40% فقط يقرؤون الكتب العلمية أو الأكاديمية، هذا التغيير الجذري في أنماط الاستهلاك المعرفي يثير تساؤلات حول مدى عمق الفهم الذي يكتسبه الأفراد مقارنة بالماضي، حيث لم يعد الوقت المتاح لاستيعاب الأفكار كافيًا لممارسة التفكير النقدي والتحليل العميق.

وإذا كان الكتاب يومًا ما هو المصدر الأوثق للمعرفة، فإن الإعلام التقليدي الذي حلّ مكانه لم يعد يحمل الثقة ذاتها، فقد كشف تقرير صادر عن معهد “رويترز” لدراسات الصحافة عام 2023 أن 45% من الجمهور فقدوا الثقة في وسائل الإعلام التقليدية بسبب تزايد الانحياز والتلاعب في نقل الأخبار، وهو ما دفع الكثيرين إلى البحث عن بدائل أخرى قد تكون أكثر خطرًا، مثل الاعتماد على المؤثرين الرقميين الذين يمتلكون تأثيرًا واسعًا دون أي التزام علمي أو أخلاقي.

لكن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في وسائل الإعلام أو المؤثرين، بل في خوارزميات الذكاء الاصطناعي التي أصبحت تتحكم في تدفق المعلومات، حيث تقوم هذه الأنظمة بتوجيه المحتوى وفقًا لتفضيلات المستخدم، مما يعزز ما يُعرف بـ”غرف الصدى”، حيث لا يرى الشخص إلا ما يتفق مع قناعاته المسبقة، ووفقًا لدراسة صادرة عن جامعة هارفارد عام 2021، فإن 65% من مستخدمي الإنترنت يقعون ضحية هذه الظاهرة، مما يحدّ من قدرتهم على رؤية زوايا أخرى من الحقيقة، ويجعلهم أكثر عرضة للانحياز المعرفي.

وسط هذا المشهد، يصبح التحدي الحقيقي هو استعادة القدرة على التفكير النقدي، فالمعرفة لم تعد مجرد معلومات يتم استهلاكها، بل أصبحت أداة تُستخدم لتوجيه المجتمعات والسيطرة على وعيها، والسؤال الذي يطرح نفسه: هل ما نعرفه اليوم هو ما نحتاج لمعرفته حقًا؟ أم أننا نعيش في عالم تُحدد فيه الخوارزميات والمصالح التجارية والسياسية ما يجب أن نؤمن به؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى