انظروا.. ها هو “تشارلي شابلن”!
روجر إيبرت
دعوني أسرد عليكم قصتين عن تشارلي شابلن، الذي جاءت وفاته في يوم عيد ميلاد المسيح. تدور أحداث كلتا القصتين في البندقية في وقت كانت تشهد فيه عرض كل فيلم من أفلام شابلن التي تعد بالعشرات خلال إحدى حفلات التكريم بمهرجان البندقية السينمائي الذي أقيم عام 1972. فتوالى عرض أفلام شابلن يومًا بعد يوم على مدار أسبوعين، كما توافد الآباء والأمهات مع أبنائهم وبناتهم يومًا بعد يوم لمشاهدة عروض أفلامه المجانية، وكانت أصداء ضحكات الأطفال المبتهجة تتردد في أنحاء المكان وهم يشاهدون مشاهد سينمائية انتهى تصويرها قبل خمسين عامًا من ولادتهم.
ثمّ جاء يوم هلّ فيه شابلن بنفسه على البندقية، وقد صار رجلًا ضعيفًا طاعنًا في السن، ويشتعل رأسه شيبًا، فقد رأى أن من الواجب عليه حضور هذه الفعالية رغم ما آلت به سنين العمر، إذ أنها أول احتفالية تحتفي بكامل أعماله.
وفي إحدى الليالي الأخيرة من المهرجان، شهدت البندقية فعل شيء لم تره من قبل. فقد أطفأوا جميع أنوار ساحة سان ماركو الشاسعة والقابعة أمام الكاتدرائية، وطلبوا من العازفين الرابضين أمام مقاهي الأرصفة التوقف عن عزف أغنية “Volare” والعودة إلى منازلهم، ثمّ وضعوا شاشة عرض أفلام عملاقة على الطرف الآخر من الساحة في مواجهة الكاتدرائية، وعرضوا عليها فيلم “City Lights”. وما لبث أن امتلأت الساحة بعشرة آلاف شخصًا، من الإيطاليين والسياح وأهالي البندقية وقاطني مايستراي، واكتظ المكان بأزواجٍ من كبار السن والشباب، بينما امتطى الأطفال الصغار أكتاف آبائهم.
تدور أحداث الفيلم عن شخصية الصعلوك وهي شخصية ابتكرها شابلن ووظفها في عشرات من أفلامه الكوميدية القصيرة إلى أن صارت جزءًا من أفلامه الطويلة مثل فيلمي “The Gold Rush حمى الذهب”، و”Modern Times الأزمنة الحديثة”، لتمسي بعد ذلك وسيلته لممارسة الهجاء القارع ضد هتلر في فيلم “The Great Dictator”.
لا تختلف شخصية الصعلوك في جميع أفلامه، فهو دائمًا يظهر بملابسه المهترئة وكرامته المهدرة وعكازه وقبعته البالية، ولكن مع روحه النبيلة. ونجد الصعلوك في فيلم “City Lights” يقع في حب فتاة عمياء تبيع الزهور في متجر صغير. ورغم فقره المدقع وإفلاسه التام، فإنه يساعدها على استعادة بصرها. ومع نهاية الفيلم، تأتي لحظة تلتقي فيها الفتاة مع الصعلوك مرة أخرى إلا أنها لا تتعرف عليه بطبيعة الحال، فتمد أصابعها وتتلمس ملامح وجهه فتتعرف عليه من قسماته.
لقد رأيت هذا المشهد من قبل، ولكني مع رؤيته هذه المرة وأنا أقف في ظلام ساحة سان ماركو وسط عشرة آلاف فرد آخر، مرّ بي شعور جارف اغرورقت معه عيناي بالدموع. وقد كان هذا الحشد المهول محافظاً على هدوئه تكاد تسمع معها هديل الحمام من أعشاشه في حجارة المباني العتيقة.
ثمّ أشرق ضوء ساطع وسط الظلام، ومرّ من فوق رؤوسنا حتى وصل إلى شرفة في الطابق الثالث تطل على الساحة، فالتفتنا جميعا ننظر صوب الشرفة. ففتح بابها وتقدم منها رجل عجوز ثم وقف. إنه تشارلي شابلن. لم تلتهب أيدينا بالتصفيق في الحال، بل نهضنا من أماكننا صامتين في دهشة. لم يستمر الصمت سوى ثلاث أو أربع ثوان. ولكنهم مروا كدهر من الزمن. ثم هللنا وصفقنا صارخين باسمه “تشارلي!” فرفع يده ولوح لنا، ثم تقدم شخصان لمساعدته على العودة إلى الغرفة. كانت هذه هي القصة الأولى.
خرجت بهدوء من الساحة ونزلت باتجاه رصيف المرفأ الذي يقع أمام قصر دوجي. وجاءت حافلة الفابوريتو المائية، وهي قارب صغير ينقل الركاب ذهابًا وإيابًا. ركبت الحافلة عائدًا إلى جزيرة ليدو التي تستضيف مهرجان الأفلام، وشاهدت صبيًا صغيرًا في حضن والدته وهو يتصفح كتيب تشارلي شابلن التذكاري الذي اشترته له. فحدثتني نفسي بأن لي باع طويل مع الأفلام، إلا أن السر في عظمة شابلن والذي يجعل أفلامه كما لو أنها تعبر عن الجميع في كل بلد، هو سر ربما أكون قادرًا على فهمه إلا أنه لن يأتي يوم أستطيع فيه تفسيره. وفي اليوم التالي، قابلت بعض الأصدقاء لتناول العشاء في غرفة طعام الفندق في جزيرة ليدو. جلست في مكان يواجه مدخل غرفة الطعام مباشرة. وبعد مرور نصف ساعة أو نحو ذلك، نظرت إلى الأعلى لأرى تشارلي شابلن يقف هناك في المدخل. كان بصحبة امرأة –زوجته، أونا، على ما أعتقد، وشاب يسنده، لعله أحد أبنائه. كنت الوحيد الذي رآه. تطلع في أرجاء الغرفة، وبدا لي أنه غير سعيد على نحو ما، ولكني لم أستطع أن أعرف السبب. قلت: “انظروا، ها هو تشارلي شابلن”. فالتفت أصدقائي لرؤيته، ورآهم وهم يلتفتون إليه، فابتسم. لم يكن يعرفهم، لكنه تقدم خطوة واحدة وابتسم. واستدار أشخاص آخرون ولم يلبث حتى عرف الجميع في الغرفة أن تشارلي شابلن يقف على المدخل. فوقف أحد الأفراد وبدأ في التصفيق، ثم تبعناه في ذلك جميعاً. فابتسم تشارلي شابلن مرة أخرى، ولوح لنا، ثم ذهب خارجًا.
ما ذلك الذي رأيته في عينيه في تلك اللحظة التي لم يدرك أحد من الموجودين أنه يقف في المدخل؟ وما يدريني بذلك؟ ولكن هل أنا رأيت ذلك الطفل الذي ولد في لندن عام 1889، ابن الأب المخمور الذي توفي بعد بضع سنوات من ولادته، وابن الأم التي حملته على خشبة المسرح بين ذراعيها، تلك الأم التي أصيبت بالجنون لاحقًا؟ أم رأيت الطفل الذي تعرض للضرب في دور الأيتام؟ ذلك الطفل الذي لم يأت عليه وقت لم يعمل فيه على خشبة المسرح؟ هل ذلك الطفل الذي أصبح أشهر فنان في القرن العشرين باقتدار وهتف له للتو عشرة آلاف شخص وهو يقف على شرفة تطل على ساحة سان ماركو، والذي يقف الآن، بعد أقل من يوم ذلك، في مدخل غرفة الطعام في الفندق.. خائف من ألا يتعرف عليه أحد؟ بالطبع كان الصعلوك شخصيةً عالمية. فكنا جميعًا أطفالًا ذات يوم.
المصدر: سوليوود