صناعة اللامحتوى
عمر غازي
في إحدى زوايا الإنترنت، تظهر فتاة في مقطع فيديو تتمايل بشكل مبتذل على أنغام أغنية هابطة، ليجتذب المقطع ملايين المشاهدات والإعجابات في دقائق معدودة، على الجانب الآخر، يجلس صانع محتوى مغمور في مكتبه، ينقح بحثًا مطولًا أو يضع لمساته الأخيرة على فيلم وثائقي بميزانية محدودة، ليحصل في النهاية على عدد مشاهدات لا يتجاوز العشرات.. المشهد السابق ليس مجرد مقارنة عابرة أو قصة من وحي الخيال، بل هو انعكاس لعصر أصبح فيه البريق أهم من المضمون، والترند أسرع طريق لتحقيق الشهرة.
وفقًا لدراسة أجرتها جامعة هارفارد عام 2022، فإن 80% من محتوى وسائل التواصل الاجتماعي يعتمد على الترفيه السريع والبسيط، وهو ما يُعرف بمصطلح “التمرير السريع”، حيث يتخذ الجمهور قراراتهم بمشاهدة المحتوى في أقل من ثلاث ثوانٍ، في المقابل، يجد المحتوى الرصين، الذي يتطلب التزامًا عقليًا أو عاطفيًا من المشاهد، صعوبة في جذب الانتباه، وهذه الظاهرة ليست مجرد تحدٍ لصانعي المحتوى، بل هي مؤشر على التحولات النفسية والاجتماعية التي أعادت تشكيل معايير الشهرة والنجاح.
من منظور علم النفس، تفسر هذه الظاهرة على أنها نتاج لـ”اقتصاد الانتباه”، حيث يتنافس صانعو المحتوى على موارد محدودة من وقت وتركيز الجمهور، وفقًا لدراسة أجرتها جامعة ستانفورد عام 2021، فإن المحتوى الذي يثير الضحك أو الفضول الفوري يتمتع بفرص أعلى للانتشار، لأنه يُفعل دائرة المكافأة في الدماغ، ما يجعل المستخدم يبحث عن محتوى مشابه. في المقابل، المحتوى الرصين يتطلب جهدًا أكبر من الدماغ لاستيعابه، وهو ما يجعله أقل جذبًا في بيئة رقمية يغلب عليها الاستهلاك السريع.
لكن الأمر لا يتوقف عند الجانب النفسي فقط، حيث يقدم علم الاجتماع تفسيرًا أعمق لهذه الظاهرة، فصعود صانعي المحتوى السطحيين هو انعكاس للتغيرات الثقافية في المجتمعات، وذلك لأن الجمهور، الذي يواجه ضغوطًا حياتية متزايدة، يميل إلى البحث عن محتوى يخفف من حدة التوتر، حتى لو كان ذلك على حساب الجودة، بحسب ما أظهرته دراسة أجرتها مؤسسة بيو للأبحاث عام 2020 حيث كشفت نتائج الدراسة عن أن 68% من المستهلكين يفضلون المحتوى الترفيهي الخفيف على المحتوى التعليمي أو التثقيفي.
في الجانب الاقتصادي، يتضح التناقض بشكل صارخ، فصانع محتوى يقدم مقاطع رقص عشوائية قد يجني أرباحًا طائلة من الإعلانات والرعايات، بينما يجد صانع الأفلام الوثائقية أو الباحث نفسه مضطرًا للبحث عن تمويل بصعوبة لاستكمال مشاريعه، حيث تحقق المحتويات الترفيهية الخفيفة تحقق ما يقارب 70% من إجمالي الإيرادات الإعلانية، وفقًا لتقرير من منصة يوتيوب عام 2022، مما يضع صناع المحتوى الجاد في موقف حرج، حيث يصبح الاستمرار في إنتاج محتواهم تحديًا اقتصاديًا بحتًا.
ورغم كل ذلك، لا يمكننا تجاهل أن المحتوى الرصين يحمل في طياته قوة لا يُستهان بها، فالنجاح الذي يتأخر في الوصول قد يكون أكثر رسوخًا واستدامة، ويمكننا ملاحظة أن العديد من صناع المحتوى الذين بدأوا دون شهرة حققوا تأثيرًا عميقًا على مجتمعاتهم، ليصبحوا مرجعًا في مجالات تخصصهم.
ويبقى السؤال: هل يمكن إعادة صياغة معايير النجاح في عصر تحكمه الخوارزميات؟ أم أن السطحية ستبقى سيدة المشهد، بينما يظل المضمون رهين الزوايا المظلمة؟ ربما تكون الإجابة في أيدينا، نحن المستهلكين، إذا اخترنا أن ندعم المحتوى الذي يعكس قيمنا واهتماماتنا الحقيقية، وليس فقط ما يثير ضحكاتنا العابرة.