نظرية الوحشية
تغريد العتيبي
من هو الوحش؟ ولماذا هو بهذا الشكل؟ ولماذا هو هنا؟ كلها أسئلة تقوم عليها نظرية “الوحشية” في دراسات القوطية النقدية، فهي هنا تعترف بالنمطية في تصوير الوحشية كالغول والتنانين والثعابين ذات الرؤوس المتعددة في الأساطير اللاتينية، كالهايدرا وميسودا وطائر الفينق وغيرها. لكنها دراسات في التراكيب الأخرى التي “تكسر” قاعدة تلك النمطية بأصالتها، أو انتمائها إلى ثقافات مختلفة وأساطير شعبية قومية، سواء الاهتمام بدراسة الأساطير والوحوش الغربية أو غيرها. تنظر نظرية الوحشية بشكل واسع في التصويرات المغايرة، من خلال قراءة سياقات تكوينها وبيئتها.
لعلّنا نذكر أحد أهم وأبرز منظري «الوحشية»، وهو جوفري جيروم كوهان، الذي شكّل النظرية بشكل كبير كدراسة ثقافية، وليست فقط تتبع أصول أساطير وتاريخ. بل هي دراسة تنبع من الأوساط الاجتماعية والسياسية في تشكيل مخاوفها. فما هو خارج القانون والمنطق والعقل والحدود الأخلاقية لدى ثقافة معينة قد يجتمع في تراكيب مشوهة، ليكون وحشًا من كل ما تخافه وترفضه تلك الثقافة، فهو إذن الآخر لذات الثقافة. من أهم الصور التي تشكّل روح هذه النظرية هي وحش فرانكشتاين المركب والمجمع من جثث عديدة، ليكون مخلوقًا أريد به الانتماء للمجتمع، لكنّه عاث فيه فسادًا بالرغم من تكوينه عاطفةً ولغةَ خطاب معين، ومحاولة إيجاد هوية، لكنَّ المجتمع ما زال يرى «وحشًا» فلا يزال يمقت. هنا يصف كوهان مدى رفض المجتمعات لكل ما هو مغاير لسياق المجتمع. فهو إذن تجميع المتغيرات في الأغلب مكونةً وحوشًا متحولة. فعادة ما يُذكر هنا هو أن كلمة «وحش» في اللغة الإنجليزية كلمة متحورة تعود إلى أصل لاتيني من أخرى تعني البوح والإذاعة والإظهار والإعلان. حيث أصبحت المحور الرئيسَ الذي تقوم عليه نظرية الوحشية، وإذا عدنا إلى القوطية في في جوهرها بوح وعودة كوابيس. فهنا تقرأ الوحوش من سياقاتها كإظهار لما تخافه تلك الثقافة، وتراه مغايرًا ومهددًا لسلامتها وتناسقها المجتمعي فيظهر كائن مُشوَّه يُهدِّد مفاهيم الأمان تلك، سواء على الصعيد الفردي كالهويات والوجوديات، أو المجتمعي والسياسي كالأعراق والعنصريات والتمييزات القومية.
الوحشية هنا أيضًا تتخطى التشكيل المجسِّد لما هي المتغيرات التي صنفت على أنها خطر على سلامة وأمان كيان المجتمع والفرد من أفكار وغيرها، بل أيضًا تظهر في نمطيات تصوير بعض الأعراق «كوحشية» وبربرية وبدائية على عكس الواقع أو في غضون التعميم، ما يجعل ذلك تصويرًا مشحونًا بالعنصرية إذا ما قوبل بأفضلية العرق الآخر. مثلًا في رواية شارلوت برونت العريقة «جين إير» في القرن التاسع عشر نرى تلك الفتاة الإنجليزية التي يستميلها سيد بايروني غامض في قلعة مظلمة لكنها تكتشف مصدر آلامه وهي زوجته الأولى الكاريبية «المجنونة»، والمحبوسة في علية القلعة، ولكن على خلاف تصويرات السلوكيات الشريرة الأخرى للشخصيات الإنجليزية، هذه المرأة وصفت بأنها مجنونة ﻷنه في «دمها» وعرقها وأصلها وبلدها، ما جعل الرواية تتحول إلى إلهام كبير في العديد من الدراسات النسوية والكتابات عن نمطية «المرأة في الغرفة العلية»، عن مدى وصف النساء بالهيستيريا والجنون بالذات في الأعراق الأخرى، التي من منظور غربي تُرى على أنها «دونية» أو «بربرية» تحتاج إلى الحضارة والثقافة الإنجليزية لتكون آنسة وسيدة. من هنا أيضًا ظهرت رواية «بحر سارجاسو الشاسع» للمؤلفة الكاريبية جين ريس في القرن العشرين كإعادة كتابة لتلك الوحشية بالذات فقد وصفت «الجنون» في شعب بلادها بأنه نشأة الدموية، والقتل والعنف والقسوة، والسطوة الإنجليزية الاستعمارية. فهي تحكي قصة بيرثا الفتاة الجامحة والمحبة للألوان والحياة والطبيعة والنمط الريفي في الجزيرة، لتؤخذ عبر بحر شاسع، وتُقمع في حجرة في شتاء قارس بلا دفء وضوء، وترى بيرثا البياض كلون قاتلٍ قمَت كُلَّ ألوان الطبيعة في ضبابية لندن وشتائها القاسي؛ فلا حيوانات ولا أشجار تنمو ولا طيور تطير؛ ما أدى إلى وحدتها ثم الاكتئاب والانتحار. لذلك نعود إلى قراءة كوهان للوحشية كجسد ثقافيّ. ما تراه ثقافة أو مجتمعًا وحشيًّا قد يراه مجتمع آخر النمطَ، فهي في الغالب نتاج سياقات عدة، ونقصد بالأعمال التي تقبع في فترات زمنية معينة، كروايات الاستعمار والحروب والاضطرابات وغيره.
لذلك نرى حدة بعض التصويرات الوحشية ليس فقط من السلوكيات بل التجسيد، فمثلًا بعض الثقافات تغطي وحوشها بلون معين، ويُرمز لقراءة عنصرية بالعودة إلى الأسئلة التي افتتحت بها. لكن لا تزال في الغالب تصوير الوحشية إذا لم يؤخذ من أساطير متعارفة مصدرًا للجدل، فقد دخلت في القوطية في العقد الأخير دراسات ذوي القدرة والاحتياجات. فبتداخلها مع القوطية والوحشية خلقت جدلًا كبيرًا في العديد من تلك التصويرات بالذات إذا ما كانت تصويرًا لا تفسيرًا له، غير أنه استخدم تلك الحالات ليجسِّد «وحشًا» مثل الدراسات على رواية فيكتور هوغو في القرن التاسع عشر «أحدب نوتردام»، وتتبعها العزلة والألم والعواطف النفسية لما نظر إليه على أنه «وحش»، وغيرها من شبح الأوبرا والمشعوذات اللائي عادة ما يعطين صفة من تلك الحالات. لذلك نظرية الوحشية أمر لا يُعنى فقط بشكل الوحش بل مَن هو؟ وما الذي أدى إلى تكونه؟ ولماذا يوصف بوحشي وغير آمن ومهدد للسلامة والانسياقات المجتمعية؟ وأي سياق قد أعلن وباح وأخرج هذا “الوحش” للعلن؟
المصدر: سوليوود