“صبيان وبنات” في الرياض.. إطلالة متجددة بعد ثلاثة عقود
عصام زكريا
عندما عرض فيلم “صبيان وبنات” للمخرج يسري نصر الله للمرة الأولى في مهرجان الإسماعيلية الدولي للأفلام التسجيلية والقصيرة في 1995، أحدث دهشة وضجة بين الحاضرين لأسباب عدة. اليوم، بعد ما يقرب من ثلاثة عقود على صُنع الفيلم عُرض خلال الجلسة الافتتاحية لمؤتمر النقد السينمائي الذي عُقِد في مدينة الرياض خلال الفترة من 9 إلى 12 نوفمبر الماضي. ورغم كل هذه السنوات يثبت «صبيان وبنات» أنه لم يزل قادرًا على إثارة الدهشة والجدل أيضًا.
في زمنه جاء “صبيان وبنات” فريدًا في موضوعه وشكله بالنسبة للسينما المصرية الوثائقية، لا يشبهه في شيء سوى رائعة يوسف شاهين “القاهرة منورة بأهلها”، الذي سبقه بأعوام قليلة. كل من الفيلمين طرحَ موضوعات حيوية لم يجرؤ أحد قبلهما على مناقشتها في فيلم وثائقي “الطائفية، الحجاب، الحب والجنس في مصر التسعينيات”. وكلٌّ منهما يتخذ شكلًا غير مألوف، إذ يخلوان من البناء التقليدي للفيلم الوثائقي ومن التعليق الصوتي ومن الشرح، ويتدفقان بالشخصيات والأحداث بشكل روائي، واعٍ ومقصود في “القاهرة منورة بأهلها”، وتلقائي وغير مقصود في “صبيان وبنات”.
في الندوة التي أعقبت عرض الفيلم في الرياض، قال يسري نصر الله إن فكرة الفيلم واتته عندما قرأ في «روزاليوسف» أن وزير الداخلية استدعى أحد قتلة السادات لمناقشته في مراجعة الأفكار المتطرفة، فقال له الأخير ما معناه أن المتشددين نجحوا في الاستيلاء على عقول المصريين بدليل أن معظم المصريات بتن يرتدين الحجاب. وأنه “نصر الله” قرر أن يصنع فيلمًا ليثبت به خطأ هذه المقولة، وأن المصريات ربما يرتدين الحجاب، ولكن عقولهن لم تزل متفتحة للحياة. وخلال ثلاث سنوات من التحضير والتصوير ومونتاج الفيلم، أصبح عملًا مختلفًا عما كان يراد به، وأصبح فيلمًا عن الحب وحياة الشباب والشابات في زمن صعب اقتصاديًّا وفكريًّا.
مبدئيًّا، كان “صبيان وبنات” واحدًا من أوائل الأفلام الـ”ديجيتال”، المصورة بالكاميرات الرقمية الصغيرة التي كانت اختراعًا جديدًا في ذلك الوقت. ونصر الله هو واحد من أوائل صناع الأفلام المصريين الذين استخدموا هذه الكاميرا بعد «صبيان وبنات» استخدمها أيضًا لصنع أول فيلم روائي طويل مصري مصور بالكاميرا الرقمية وليس بالشرائط الـ35 مم السينمائية، وهو فيلم «المدينة».
تأثير الكاميرا الرقمية يتجاوز مسألة التكلفة المالية المنخفضة وسهولة الاستخدام إلى شيء آخر لا يقل أهمية، وهو إمكانية قضاء وقت أطول مع مصادر الفيلم وتصويرهم عدد ساعات لا يُحصى «نظريًّا»، على عكس كاميرات السينما الثقيلة البارزة وشرائط السينما المكلفة، التي غالبًا ما لا يستطيع المخرج أن يحصل على الكثير منها، خاصة في الأفلام الوثائقية. وكان يتحتم على صناع الفيلم أن يضعوا سيناريو مُسبقًا قبل التصوير تجنُّبًا لإهدار الخام، وهو ما كان يؤدي إلى نوع من الافتعال والأداء التمثيلي للمصادر، وإذا أضفنا حجم الكاميرا الـ35 مم الضخمة واللافتة للأنظار، فكلها عناصر تفسد التلقائية و«الواقعية» التي يُفترض توافرها في الأفلام الوثائقية.
بحسب يسري نصر الله، فقد قام بتصوير 75 ساعة ليخرج منها بـ75 دقيقة هي زمن الفيلم، أي ما يعادل 1 إلى 60. أمر كان يستحيل تحقيقه بكاميرات الـ 35 مم، التي لا يزيد فيها معدل ما يتم استخدامه على 1 إلى 2 أو 3 مما يتم تصويره.
عام من التحضير والمعايشة للشخصيات والأماكن، وعام من التصوير، ثم عام من المونتاج وإعادة البناء والمونتاج، أشياء لم تكن متاحة من قبل في السينما الوثائقية إلا لاستثناءات نادرة من المخرجين الذين يحظون بشركة إنتاج أو مؤسسة كبيرة مستعدة لوضع ميزانية كبيرة لفيلم وثائقي. الكاميرا الرقمية وفرت هذه الإمكانيات لمعظم المخرجين منذ منتصف التسعينيات، وكان يسري نصر الله وفيلمه «صبيان وبنات» سباقًا في هذا المجال، ونموذجًا يحتذى لمعظم المخرجين الشباب الذين دخلوا المجال في تلك الفترة. هذا من ناحية شكل الفيلم وطريقة تنفيذه، وهو أمر انعكس بالطبع على المضمون.
في الوثائقيات التقليدية، التي يكون فيها صانع الفيلم مضغوطًا بكمية محددة من الخام، وكمية ثقيلة من الكاميرات ومعدات التصوير والإضاءة، فإن ما يظهر على الشاشة غالبًا هو عينة رمزية تمثيلية من الناس، غالبًا ما يتحدثون فيها إلى الكاميرا عوضًا عن أن يعيشوا حياتهم أمامها.
في «صبيان وبنات» نرى الشخصيات في حياتهم اليومية، كما لو أنهم لا يشعرون بوجود الكاميرا حولهم، يتحدثون ويعملون ويرقصون. لا أزعم بالطبع أنهم طبيعيون مئة بالمئة. بعد مرور كل هذه السنوات، عندما تشاهد الفيلم الآن، يمكنك أن تدرك أن هناك «سيناريو» ما، وضع قبل كل مشهد، وأن الناس «تؤدي» نوعًا من التمثيل. صحيح أنهم يؤدون بشكل طبيعي بفضل الجهد الكبير والمشاعر الصادقة التي ربطتهم بصانع الفيلم، وكذلك لكون الشخصية الرئيسة في الفيلم، وهو الممثل باسم سمرة في بداية حياته، قبل أن يتفرغ كليًّا للتمثيل، هو قريب وصديق لمعظم الشخصيات التي تظهر في الفيلم، ما جعلهم يكشفون عن بعض أدق تفاصيل حياتهم، دون أن يشعروا بوجود «غرباء» بينهم. لكنهم بالتأكيد كانوا يشعرون بوجود «ضيوف» لديهم، ويتصرفون كما يتصرف المرء عادة عندما يكون لديه ضيوف.
في ذلك الوقت لم يكن الناس قد اعتادوا بعد وُجودَ الكاميرا في حياتهم مثلما هو الحال الآن، وحتى الكاميرات الرقمية الصغيرة كانت تُمثِّل اقتحامًا مقلقًا لأي مكان تظهر فيه. ومن المؤكد أن الناس باتوا يتصرفون بشكل أكثر طبيعية وأريحية أمام الكاميرات. عندما نشاهد الفيلم الآن، ربما ننتبه إلى الجوانب «التمثيلية»، «الصناعية»، في الفيلم. ولكن في زمنه كانت الجوانب الطبيعية الواقعية هي أكثر ما يبهر فيه، فقد كان أمرًا غير مسبوق على الإطلاق أن نرى الناس في بيوتهم وغرف نومهم وأماكن عملهم يعيشيون حياتهم كما لو أنه لا يوجد كاميرا حولهم.
في حواره لجمهور الرياض عقب عرض الفيلم قال يسري نصر الله إنه بعد عمل نسخة أولى من الفيلم ركز فيها على مناقشة «القضية» التي كانت تشغله، وهي موضوع الحجاب، شعر بأن هناك شيئًا جامدًا وكريهًا في المادة المستخدمة، ومن ثم أعاد مونتاج الفيلم ليركز فقط على الناس والأشياء التي أحبها فقط. ولعله يقصد بذلك أنه ركز على المشاهد الأكثر حميمية وصدقًا وقربًا من طريقة حياتهم وحديثهم الطبيعية. وهو ما يجعلنا نفكر في أمر مهم للغاية: أن هذا الفيلم صنع نفسه بنفسه، واتخذ مسارًا مختلفًا عما كان يريد له المخرج، مثلما يحدث كثيرًا مع الأعمال الوثائقية. وأعتقد أن سبب ذلك ليس حدوث أشياء غير متوقعة في أثناء التصوير، ولكن لأن الكاميرا الرقمية الحديثة كانت شريكًا أساسيًّا في صنع الفيلم، مثلما كانت ولا تزال شريكًا أساسيًّا في صنع العالم من حولنا.
المصدر: سوليوود