كُتاب الترند العربي

مشكلتي مع فيلم “Blue Velvet”

روجر إيبرت

إذا كنت تريد فهم ديفيد لينش، فربما من المناسب البدء بلوحاته الفنية. فهو يرسم بأسلوب على حد وصفه «فن بدائي سيء»، ويقول إن لوحته قد نجحت إذا شعرت بالرغبة في تمزيقها بأسنانك.

على الرغم من أن لينش رسام جاد، إلا أنه نال شهرة أكثر كمخرج سينمائي، وإثر فيلمه الأخير “Blue Velvet”، وجد نفسه في قلب عاصفة من الانتقادات المحلية المحمومة. الفيلم قوي وصادم للغاية، ولكنه جريء لدرجة أن الناس يخرجون يهزون رؤوسهم، لا يعرفون تحديدًا كيف يشعرون نحوه.

لست شخصيًا من المعجبين بالفيلم. أو بالأحرى ينبغي أن أقول، تعجبني حرفيته ولكني لست من المدافعين عنه. أعتقد أن لينش مخرج موهوب، واستخدم في “Blue Velvet” موهبته بطريقة أدنى مما تستحق. الفيلم قوي وشائك وصنع بمهارة رفيعة، ومع ذلك شعرت بالشفقة على الممثلين الذين عملوا فيه والغضب من المخرج لتصرفه بتجاوز معهم. ثم أجريت بعد ذلك مقابلة مع لينش في نيويورك، ولم أجد وحشًا، بل رجلا لطيفًا ومخلصًا، صريحًا عن فيلمه.

إذا لم تكن شاهدت فيلم “Blue Velvet”، فربما يلزمك وصفًا موجزًا للفيلم. يصور الفيلم صدامًا مباشرًا بين نوعين من الأفلام الشعبية من أربعينيات القرن العشرين: كوميديا البلدات الصغيرة المشوقة والفيلم “نوار noir” أو أفلام الجريمة المظلمة. في النوع الأول الكوميدي، تكون الشخصية مشابهة لشخصية “Dagwood Bumstead داجوود بومستيد” الكرتونية، والذي يتخبط في طريقه في الحياة بينما تنبح عليه الكلاب، ويلقي الأطفال النكات ساخرين منه، بالإضافة لإزعاج زوجته له. ومع ذلك، فإن كل شيء مشرق في عالمه المكون من أسوار الحديقة والمظلات الخضراء وأشجار الظل والجيران اللطفاء ورجال الشرطة الودودين وسعاة البريد الذين يعرفون اسمه. يتصرف داجوود، أو أيًا كان ما تريد أن تدعوه به، كما لو أنه لا يدرك أن العديد من الذكور لديهم فعلًا حياة جنسية.

أما في النوع الثاني، وهو الفيلم نوار، وهو نوع سينمائي أكثر جدية وتفكرًا، يكتشف الناس العاديون أن الشر يكمن تحت قشرة حياتهم، وأنهم هُمّ أنفسهم قادرون على ارتكاب أعمال لا توصف. ولا يعد الفيلم نوار المثالي عادة فيلم عصابات أو جريمة، بل قصة عن كيفية ولوج الشر إلى الحياة اليومية. هذا النوع متشائم للغاية. فهو لا يظهر أشخاصًا سيئين يفعلون أشياء سيئة، بل أشخاصًا عاديين يقترفون أفعالًا سيئة. والشاهد هو أننا جميعًا قادرون على الشر.

يقوم فيلم “Blue Velvet” على نوعين من المشاهد: الأولى هي مشاهد الحياة اليومية في المدن الصغيرة، حيث يتواعد الناس عند نافورة ويقودون سياراتهم اللامعة في أنحاء المدينة. والنوع الثاني يكمن في مشاهد الأعماق حيث تحدث أكثر الأعمال التي لا توصف خلف الأبواب المغلقة. اختار لينش أبطاله اثنين من الفنانين الشباب الجدد، الشاب الوسيم كايل ماكلاشلان، ولورا ديرن، الشقراء المرحة. يبلغ كلاهما من العمر حوالي 18 أو 19 عامًا. حيث يتعثران في أحد الأيام على لغز بسبب أذن بشرية مقطوعة، ويقود تحقيقهما إلى أحد أكثر المشاهد الصادمة في الأفلام الحديثة.

ففي المشهد: يختبئ ماكلاشلان في شقة مغنية بملهى ليلي محلي «التي تمثل دورها إيزابيلا روسيليني»، والتي يشتبه في أنها تعرف شيئًا عن الأذن المقطوعة. فيشاهد ماكلاشلان، وهو مختبئ، رجلًا مجنونًا منحرفًا «بتمثيل دينيس هوبر» وهو يصرخ بألفاظ بذيئة على المرأة، ويضربها، ويستنشق الغاز المخدر من أسطوانة في حزامه، ثم يغتصبها، ويغادر. ثم تجد شخصية روسيليني ماكلاشلان في الخزانة، فتوجه سكينًا نحوه وتجبره على خلع ملابسه وتثيره. وفي وقت لاحق، تطلب منه أن “يكون ولدًا سيئًا” وأن يضربها إشارةً للمازوخية. وذلك على الرغم من أن هوبر على ما يبدو يختطف زوجها وابنها رهينتين لإجبارها على الخضوع له، إلا أننا ندرك بصدمة أنها اكتشفت أنها تحب الخضوع للوحشية.

تتعرض روسيليني في مجريات الفيلم لأزمات عاطفية أشدّ حدة من أي فنان سينما منذ فيلم “Last Tango in Paris” ببطولة مارلون براندو وماريا شنايدر. حيث إن في أحد المشاهد، تمشي ماريا عارية في حديقة قائد الشرطة المحلية، بينما يشرع الغرباء في الاحتشاد. ووجدت أن مشاهدها كانت ذات تأثير غير متوقع. فقد استجبت لتأثيرها الجذري بالفعل، ولكني كلما فكرت فيها أكثر، زاد غضبي، لأن لينش يحيطها بما هو في جوهره سخريةً لكوميديا المدن الصغيرة. فهو يولد هذه القوة الهائلة والمؤلمة، ثم يستخدمها مجرد معارضة لسخرية طفولية.

كلما انتهك المخرج حساسيات جمهوره وفنانيه بشكل مؤلم أكثر، كلما كانت نيته أكثر جدية. فيستحق برناردو بيرتولوتشي كل لحظة من الألم في فيلم “Last Tango in Paris” لأنه يخبِرُنا بأشياء يمكننا الاستجابة لها والتعلم منها عن الروح البشرية. بينما احتاج فيلم “Cries and Whispers” لإنغمار بيرغمان، والذي اعتبره أكثر فيلم مؤلم شاهدته على الإطلاق، ثلاث ممثلات لتصوير لحظات من الألم المذهل والانحطاط والكشف عن الذات. إنه فيلم نبيل. حيث يظهر لنا ديفد لينش مشهدًا لشخصية روسيليني وهي عاريةً ومذلولةً، ثم ينتقل إلى النكات عن الشعارات على محطة الإذاعة المحلية.

تلقى الفيلم بعض المراجعات الحماسية، ولكن يبدو أن العديد منها يخطوا على أطراف أصابعه حول التحدي العاطفي المركزي للمشاهد. وفي مجلة “The New Yorker”، كتبت الناقدة بولين كايل إنها أحبت الفيلم، ولكن مراجعتها له تبدوا كملخص مطول للحبكة، ووصف تفصيلي للفيلم يبدو وأنه يشير إلى أن الملخص لوحده كاف، فهي لم تناقش أي من القضايا التي يثيرها.

ويبدو أن الناقد ديف كير في صحيفة “Chicago Tribune” قد لاحظ بالكاد المشاهد التي وصفتها للتو ويسبط معظم اهتمامه على شرح ذكاء أسلوب لينش الساخر. ويقول الناقد الآخر جين سيسكل إن المخرج “يتلاعب بالجمهور وكأنه يعزف البيانو”، ويصدمنا أولًا، ثم يضحكنا، كما لو أن مجرد التسبب في إحساس للجمهور بأي إحساس كان بحكم التعريف شيئًا مثيرًا للإعجاب.

هل كل ما في الفيلم أسلوبه؟ بعض النقاد يعتقدون ذلك. يجادلون بأن الفيلم لا يدور حول أي شيء باستثناء نفسه. يتعاملون مع فيلم “Blue Velvet” كنوع من الألغاز الفكرية الذكية التي يتمثل التحدي فيها في العثور على جميع مراجع لينش السينمائية والنكات الصغيرة الدقيقة. لكن لنتمهل لحظة. هناك امرأة تقف عارية على العشب هنا. هل لهذا الفيلم الحق في إظهارها بهذه الطريقة؟

بعد أن تحدثت إلى لينش عن فيلمه، أميل إلى الاعتقاد بأنه يأخذه على محمل الجد أكثر مما يفعل العديد من المدافعين عنه. الفيلم شخصي للغاية، وهنا تكمن المشكلة: الفيلم شخصي لأسباب لم يضعها لينش في الفيلم. لذلك، فهو يعني له أكثر مما يمكن أن يعني لنا بالمرة.

حيث أخبرني، على سبيل المثال، أن مشهد روسيليني وهي عارية في الليل مستوحى من طفولته: “عندما كنت صغيرًا، كنتُ وأخي بالخارج في وقت متأخر من إحدى الليالي، ورأينا امرأة عارية تمشي في الشارع قادمةً نحونا في حالة ذهول وهي تبكي. لم أنس هذه اللحظة قط”. وماذا عن المشاهد التي تجد فيها المرأة أنها تحب الإساءة السادومازوخية أكثر من عائلتها؟

“إنها أسيرة بإرادتها. أشعر أن الناس يمكن أن يقعوا في هذه الأشياء، وكأنهم يتعثرون على خطوات الدرج. في الحياة الواقعية، لا يحدث ذلك بهذه السرعة. أنا لا أقول إنه غير ممكن. بل أشعر أن الناس يدخلون في هذه الأشياء بالتدرج. فذلك الصبي في الفيلم يفعل ما تطلب منه القيام به، ويجد في نفسه القدرة على القيام بالكثير من الأشياء التي لم يعتقد أبدًا أنه يستطيع القيام بها”.

يقول لينش إنه نشأ في مونتانا، في بلدة تشبه لومبيرتون وهي المدينة التي تقع فيها أحداث الفيلم إلى حد كبير. فقضى لينش في صغره الكثير من الوقت في الغابة. كان والده عالمًا باحثًا في وزارة الزراعة. وكانوا يعيشون في حيّ ذو حدائق مسورة وشجيرات ورد، تمامًا كما في افتتاحية الفيلم. وقد تنقلت العائلة في أنحاء منطقة شمال غرب المحيط الهادئ، مدينة ميسولا في مونتانا، ثم مدينة سبوكان في واشنطن وبويز، وأيداهو، ثم شرقًا إلى ألكسندريا في فيرجينيا. وفي نهاية المطاف، وجد نفسه مسجلًا في مدرسة الفنون في فيلادلفيا، وفي تلك المدينة حدثت له أشياء سيئة غير محددة، وأدرك أن الحياة أكثر تعقيدًا مما كان يعتقد.

كان أراد دائمًا أن يكون رسامًا. فدخل في صناعة الأفلام بشكل غير مباشر، حيث صنع بعض المشاريع في مدرسة السينما. وقد جعله أول فيلم طويل له، بعنوان “Eraserhead”، مصممًا شابًا لامعًا. ثم فيلمي “The Elephant Man”، و”Dune”. وعندما تم إصدار فيلم “Dune”، أدهشني مدى قبحه، وكيف تعمد في صنع كواكبه وأشكال الحياة فيها بهذا القبح. لم يكن بها أي من الروعة والدهشة والجمال التي تجدها في العديد من أفلام الخيال العلمي. وأعتقد أن ذلك كان متعمدًا.

وصف لي لينش مشاعره عن الرسم وقال «أنت تمر على اللوحات، ولا تستوقفك أيّ منهن. يمكنك المرور عليها عابرًا لأنها جميلة فقط. أحب أن أشعر أنه يمكنك عض لوحاتي. لا لأكلها، بل لإيذائها. أحب أن أشعر وكأنني أرسم بأسناني. أصف لوحتي أنها “سيئة” لأن الرسم السيئ له جماله الخاص. إنها ليست منسوجات مُصممة ولا تُحدث ضجة تجارية. بل تجعلك تتفاعل معها».

حسنًا إذًا، تفاعلت مع “Blue Velvet” أيضًا، وبصفتي ناقدًا سينمائيًا متمرسًا وذكيًا، أعرف كيف أكتب مدحًا عصريًا عن الفيلم، كيف أفسر رسالة المخرج، كيف أظهر أنني ذكي بما يكفي لفهم خفاياه. يمكنني حتى تبرير تطرفه وشرح كيف أن فقط الغوغاء غير المثقفين هم الذين سيكرهون الفيلم.

أعرف كيف أكتب هذا النوع من المراجعات، لكن تبًا لذلك، ففي ذلك سأناقش أسلوب الفيلم وأتجاهل روحه الضائعة. لربما شاهد بعض النقاد الكثير من الأفلام لدرجة أنهم نسوا كيف ينظر إليها الأشخاص العاديون. بالنسبة لمعظم الأشخاص، لا تتعلق الأفلام بالأناقة، بل إنها تدور حول من فيها من الشخصيات، والأحداث التي يمرون بها، ومعناها. توجد في فيلم “Blue Velvet” بعض المشاهد لإهانة المرأة وإذلالها وجعلها تعاني بشكل فاحش، ومشاهد أخرى من المفترض أن نضحك فيها لأن رقم الاتصال الخاص بالمحطة المحلية هو “WOOD”، ويكون وقتها “عند صوت الأشجار المتساقطة”. فعذرًا.. ولكنني لم أستطع حتى أن أرسم الابتسامة على شفتاي.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى