أن تكون “ديفيد لينش”: السينما المغناطيسية!
عصام زكريا
من بين كُلِّ المواهب السينمائية المعاصرة يظلُّ اسم المخرج ديفيد لينش، المولود في 20 يناير 1946 واحدًا من أكثرها تميُّزًا وقدرةً على البقاء. ومن المدهش أن أعماله حتى القديمة تبدو حديثةً وعصريةً أكثر مما كانت تبدو في زمنها!
هو واحد من المخرجين الأميركيين الكبار الذين لم يحصلوا على الأوسكار، مثل أورسون ويلز وهيتشكوك وتارانتينو. وكل منهم قدم أفلامًا بدت في عصرها غريبةً أو غامضةً، أو لا ترقى لمستوى الأفلام الفنية الجادة، ولكن عُدَّت من روائع الفن السينمائي فيما بعد.
ينطبق الأمر على ديفيد لينش، ويكفي أن يذكر المرء أعمالًا مثل «القطيفة الزرقاء» 1986، أو «طريق مولهولاند» 2001، أو مسلسله التليفزيوني «توين بيكس» بأجزائه الثلاثة 1990، 1991، 2017، التي أصبحت كلاسيكيات تركت أثرها على الفن والصناعة وعلى أجيال من السينمائيين.
لا تشبه أفلام ديفيد لينش أيَّ أفلام أخرى، كما لو أن الرجل قادم من كوكب آخر بعقل ومفهوم مختلف عن السينما.
صحيح أن لسينماه جذورًا في الفن التشكيلي والشعر، منذ أن ظهرت الحركة السوريالية في عشرينيات القرن العشرين، ثم في السينما بداية بفيلم «كلب أندلسي» الذي صنعه كل من لويس بونويل وسلفادور دالي 1929، ثم في أعمال مثل «شظايا ما بعد الظهيرة Meshes of the Afternoon» للمخرجة مايا ديرن 1943، وأعمال فيدريكو فلليني، التي تأثر بها لينش أيّما تأثر، خاصة فيلمي «ثمانية ونصف» و«لا سترادا». وكلاهما -رغم تباينهما الشديد نوعيًّا وأسلوبيًّا- نجد تأثيره على عديدٍ من أعمال ديفيد لينش.
رغم هذه الجذور والتأثيرات، فإنّه يمكن القول إن لينش ذهب بالسوريالية نفسها إلى مكان آخر!
تعني كلمة surreal حرفيًّا “ما فوق الواقع”، وهي تعني في الفن تجاهل الواقع المرئي بالعين المجردة، والنزول إلى أعماق الوعي الباطن لتصوير أحلام النوم واليقظة، أو إعادة ترتيب الواقع بآليات وشكل الأحلام.
يعبر فيلم لينش الأول “رأس الممحاة Eraserhead” لعام 1977 عن هذه الفكرة بشكل حاد. حتى إن الفيلم رغم بساطة فكرته، نُظر إليه بوصفه غامضًا ومستغلقًا على الفهم.
يروي الفيلم قصة رجل يُنجب طفلًا مُشوَّهًا، تنتابه بعض الأحلام الكابوسية، يظهر بها إناس برؤوس تشبه الممحاة “صور لا بد أنها كانت تراود لينش نفسه، الذي كان قد أنجب طفلته الأولى بعيب خلقي في قدمها”.
جاء الفيلم بمثابة صدمة للمشاهدين وللنقّاد، ولكن حتى الذين انزعجوا من الفيلم لم يستطيعوا إنكار أن وراءه عقلًا سينمائيًّا فذًّا، ومن ثم عرضت إحدى الشركات الإنجليزية الكبرى على لينش أن يقوم بإخراج سيناريو فيلم «الرجل الفيل» 1980 عن قصة حقيقية لشخص مُشوَّه، كان يُستغَل للعرض في السيرك والكرنفالات الشعبية باعتباره إحدى أعاجيب الدهر. قصة بسيطة فائقة الرقة والألم حولها لينش إلى واحد من أجمل الأفلام الإنسانية على الإطلاق. شارك في بطولة الفيلم اثنان من عمالقة التمثيل الإنجليز: جون هارت، والشاب آنذاك أنطوني هوبكنز، ورُشِّح الفيلم لثماني جوائز أوسكار، لكنه كان أيضًا سببًا في اقتناع الأكاديمية بتخصيص جائزة للماكياج وتصفيف الشعر!
نجاح «الرجل الفيل» لم يدفع لينش إلى التركيز على الأفلام «التقليدية»، بل على العكس راح يواصل حلمه بصنع سينماه الخاصة، النابعة من عقله فقط، الواعي والباطن، ذلك العقل الجامح والجانح إلى أقصى مدى. وهكذا جاء فيلمه “كثيب Dune” لعام 1984، عن رواية فرانك هربرت الشهيرة «التي تحولت إلى سلسلة من إخراج دوني فيلنيوف حديثًا»، ليدشن به واحدًا من أغرب أفلام الخيال العلمي، ثم تبعه برائعته الأكبر «القطيفة الزرقاء» 1986، الذي حصل على السعفة الذهبية من مهرجان «كان»، مدشّنًا ديفيد لينش كأحد أبرز فناني السينما في العالم. يكفي أن يتذكر المُشاهِد الافتتاحيةَ لكلٍّ من «كثيب» و«القطيفة الزرقاء» ليدخل في جو mood الفيلم، كما لو أنه توقف أمام عيني منوم مغناطيسي!
مرت أربع سنوات قبل أن يصنع لينش فيلمه التالي “وحشة في القلب Wild At Heart”، الذي انتزع سعفة «كان» للمرة الثانية على التوالي، ولكن هذه المرة قسم الفيلم مشاهديه بحدة بين معجبين متيمين ومنزعجين نافرين بسبب مشاهد العنف والجنس. وإلى اليوم يُعد “وحشة في القلب” عملًا خلافيًّا، حتى أنه الوحيد من بين أعماله الذي لم يتم توزيعه عبر إحدى المنصات الكثيرة التي تتمنى عملًا بتوقيع ديفيد لينش!
في العام نفسه 1990 قام لينش مع مارك فروست بعمل مسلسل تليفزيوني بعنوان «توين بيكس» كان له أن يغير مفهوم الدراما التليفزيونية إلى الأبد، وحتى بمقاييس هذه الأيام التي أصبح فيها كل شيء مُمكنًا ومُباحًا على المنصات، لا يزال «توين بيكس» محتفظًا بمكانته وحضوره واحدًا من أفضل المسلسلات على الإطلاق.
في «الماستر كلاس» المتاح على موقع Masterclass، وبعض اللقاءات الأخرى، يروي لينش عن الطريقة التي تم بها عمل المسلسل، من خلال الارتجال، والتطوير في أثناء التصوير، وحكايته عن الكيفية التي ولدت بها شخصية «العفريت» القاتل بوب من أعجب ما أفرزته قريحة سينمائي، وأنصح أي قارئ أن يطلع عليها إذا لم يكن قد فعل ذلك.
في الـ«ماستر كلاس» نفسه يشرح لينش بطريقة ممتعة كيف يعمل عقله السينمائي. الفكرة أهم شيء؛ أن تجد فكرة جيدة يعني أن تُفكِّر كثيرًا، حتى وأنت تفعل أشياء أخرى. لكن من المهم أن تقضي وقتًا بمفردك مع أحلام اليقظة. الأمر أشبه بصيد السمك؛ ترمي السنارة وتنتظر، تأتي فكرة صغيرة، تستخدمها كطُعم وتلقي بالسنارة من جديد، وهكذا تبدأ الفكرة في النمو.
يذكر لينش استعارة أخرى عن الأفكار: هناك فكرة عظيمة في مكان ما. وأنت في الحجرة الأخرى لا تعلم عنها شيئًا. وهذه الفكرة مثل «بازل» مكون من سبعين قطعة. فجأة يلقي أحدهم إليك بقطعة. أنت لا تفهم منها شيئًا وتعدُّها سخيفة. ولكن انتظر، سوف تأتي قطعة ثانية، وثالثة، وتبدأ الرؤية في الوضوح. أحيانًا تأتي القطعة الأخيرة في آخر لحظة ربما في المونتاج.
هذه طريقة مختلفة تمامًا في صنع السينما، أساسها الإيمان «السوريالي» بقوة الوعي الباطن ومنطقه. أو يمكن صياغة الأمر بطريقة ثانية: عندما تسمح بتدفق الأفكار والصور والخيالات بحرية من الوعي الباطن، فإن عقلك يبدأ في التقاط مجموعة من الأفكار والصور المتجانسة وينسجها في كيان عضوي واحد.
إذا تعجبت من كيفية ولادة فكرة بوب القاتل، فانتظر حتى تعرف كيف ولد «طريق مولهولاند» 2001، الذي عدَّه النقاد في استطلاع حديث أفضل فيلم صُنِع في الألفية الثالثة حتى الآن:
اتفقت إحدى المحطات مع لينش على عمل مسلسل وطلبت منه صنع حلقة استرشادية pilot، ولكن الحلقة لم تعجبهم فألغوا المشروع.
بعد ذلك تواصلت شركة فرنسية مع لينش للتعاون. عرض عليهم الحلقة الـ«بايلوت» لاستكمال مشروع المسلسل، فقالوا له حوِّل الحلقة إلى فيلم وسوف ننتجه. وهكذا ولد الفيلم من فكرتين مختلفتين، لكنهما اتحدتا وأنتجتا تحفةً، ربما لا تشبه الأفلام العادية، وربما تحمل كثيرًا من القصص غير المترابطة والألغاز غير المحلولة «التي قد لا يكون لها حل أصلًا». ومع ذلك فكل شيء يبدو في مكانه ومتحدًا عضويًّا بطريقة سحرية.. مغناطيسية.
المصدر: سوليوود