فيلم “فوي فوي فوي”.. أحلام الهجرة بين الضحك والبكاء
د. وليد سيف
تشير محركات البحث إلى الكثير من الأخبار والموضوعات عن فيلم «فوي فوي فوي»، تنشغل غالبيتها بأمور تتعلق بندوة العرض الخاص بالفيلم، وما دار فيها من مشادات بين الفنانين والصحافيين، وما أثارته من جدل، وما أعقبها من لقاءات تليفزيونية وتحقيقات صحفية. مع الأسف طغت هذه الأمور على ما يستحقه الفيلم من قراءة ودراسة نقدية، بعد أن حظي بآراء إيجابية من غالبية النقّاد، وبعد أن تمكَّن من أن يحصل بجدارة على ترشيح لجنة نقابة المهن السينمائية في مصر لمسابقة الأوسكار.
يُعد فيلم فوي واحدًا من سيل من الأفلام التي تتعلق بمسألة الهجرة غير الشرعية، تلك الأعمال المتواجدة منذ سنوات بكثرة وغزارة على خريطة أفلام العديد من الدول، التي تحقق منها الكثير من الروائع، فلماذا أمكن لهذا الفيلم أن يحقق كل هذا القدر من التميُّز والإعجاب؟ وما الذي استطاع أن يضيفه إلى هذا الموضوع بعد كل هذا الزخم من الإنتاجات الإفريقية والأوروبية والأميركية؟
بداية يستند الفيلم إلى حادثة حقيقية فجّرها الصحفي محمود شوقي من خلال ما نشره من تحقيقات، حصل عنها على جائزة دبي للصحافة، كما جمعها ضمن كتاب أصدره بعنوان «المكفوفون والكرة» حول حادثة عن فريق مصري لكرة القدم للمكفوفين سافر للمشاركة في بطولة العالم في بولندا، لكن أعضاءه هربوا قبل لقاء المباراة، وثبت أنهم كانوا من المبصرين، وادعوا أنهم مكفوفون ليسافروا مع الفريق حتى يتمكنوا من الهجرة.
لكن الاعتماد على حادثة حقيقية ليس كافيًا لتحقيق فيلم روائي جيد. بداية اختار مؤلف الفيلم ومخرجه عمر هلال أن يعالج موضوعه بمزيج من الكوميديا والتراجيديا، الكوميديا النابعة من المفارقة الغريبة لمبصرين يشاركون في بطولة كمكفوفين، والتراجيديا التي تنبع من هذه الشخصيات وظروفهم البائسة وميولهم الشيطانية نحو اتخاذ أي وسيلة غير شريفة لتحقيق أغراضهم.
يسلط الفيلم الضوء على واحد من ثلاثة شبان يلعب دوره محمد فراج، وهو لا يجد أملًا في أي مستقبل إلا في السفر، وتتعثر محاولاته من أجل ذلك، الواحدة تلو الأخرى، حتى يجد ضالته في إعلان عن فريق المكفوفين لكرة القدم، ليست لديه مشكلة في لعب كرة القدم التي يجيدها وشاهدناه يلعبها مع أصحابه، بينما تكمن الصعوبة في التظاهر بأنه غير مبصر، لكنه ينجح في إقناع المدرب وينضم للفريق بالفعل، وحين يشك المدرب في أنه مبصر ويواجهه نكتشف أن المدرب مستعد لقبول رشوة والإبقاء على اللاعب المبصر سرًّا على أمل أن يحصل على البطولة.
تتصاعد المفاجآت حين نجد الفساد يطول إداري الفريق أيضًا، ويستغل البطل الموقف ليضم صديقيه معه للفريق. وتصل المفاجآت إلى ذروتها حين نكتشف أن الفريق معظمه من المبصرين. وهكذا لا يتوقف الأمر عند حدود حالات فردية لكنها حالة من التواطؤ المجتمعي، ورفْع شعار الغاية تبرر الوسيلة بين أجيال مختلفة وطبقات مختلفة، بل إن ذكاء السيناريو يضع وسط الأحداث حادثة تبدو إرهاصة أو تمهيدًا لنهاية الفيلم، حين يقدم البطل وأصحابه على السطو على رجل فيجدون فريقًا آخر من اللصوص يهدفون إلى ذلك أيضًا.
يتميز السيناريو بالإحكام الشديد، فلا يوجد مشهد ولا لقطة بلا ضرورة، كما أنه من الواضح أن هناك تطويرات عديدة حدثت له حتى يتجنب المشكلات الرقابية، وأيضًا الاعتراضات الأوروبية ليجعل الشباب في النهاية يمارسون في أوروبا أعمالًا متواضعة وشاقّة، بل إن البطل يعود لممارسة ما كان يمارسه في بلاده من اصطياد العجائز للإنفاق عليه، فالجانب الأوروبي بالطبع لا يحفل بتشجيع الهجرة غير المشروعة التي تثقل على اقتصاده وتجر عليه المشكلات.
يمتلك مخرج الفيلم عمر هلال القدرة على التعبير بلغة سينمائية سليمة، وتوظيف عناصر الديكور والملابس لتتناسب مع رؤيته، ومع طبيعة الشخصيات والأماكن، لولا توظيف الإضاءة البراقة والألوان المبهجة والعناية بجماليات الصورة في بعض المشاهد، حتى لو تعارضت مع الموقف الدرامي، لكنه رغم كونه وافدًا من عالم الإعلانات فإنّه يسيطر إيقاعيًّا على المشاهد واللقطات، فيتمهل بالقدر الواجب في مشاهد تستحق التوقّف، كما يجيد توظيف الموسيقى دون إغراق أو إفراط.
الأهم من ذلك أنه في تجربته الروائية الأولى يصل بممثليه إلى درجة عالية من الأداء المتقن المقنع، وعلى رأسهم طبعًا محمد فراج الذي يمثل له هذا الفيلم خطوة مهمة نحو مواصلة أدوار البطولة، ومن خلال شخصيات معقدة، وتتطلب مهارة خاصة من الممثل، والشيء نفسه ينطبق على بيومي فؤاد في دور مدرس الألعاب الذي يتحول إلى مدرب، فينضم بسهولة إلى طابور الفاسدين.
المفاجأة الحقيقية في هذا الفيلم تتمثل في ظهور الممثل الشاب طه دسوقي فهو هنا ينتقل إلى منطقة بعيدة عن الكوميديا، وهو ليس البطل، إنما يقف برسوخ إلى جوار محمد فراج صاحب الموهبة الكبيرة. يستطيع طه أن يلفت الأنظار بفضل طبيعة الشخصية المختلفة وغير المنساقة بسهولة، والطريقة التي يؤدي بها، فشخصيته هي الأكثر تعبيرًا عن القطاع الأكبر من شبابنا محدودي القدرة والموهبة الذين يستسلمون لعمل بسيط لكنه لا يكفل لهم حياة كريمة ولا مستقبلًا واعدًا، فيعبر عنهم طه بنظراته الزائغة وحركاته المترددة وصوته الواهن وكلماته غير الواثقة، دون أن يفقد حضوره وطاقته التعبيرية التي تجعله أكثر صدقًا وقربًا إلى القلب.
في أحد المشاهد التي يذهب فيها لتسليم الطعام كعامل دليفري يلمح داخل الشقة خطيبته السابقة، التي عجز عن تدبير نفقات الزواج بها، يراها بملابس النوم في بيت رجل غريب، فتلوح منه التفاتة صامتة ومعبرة تحمل مزيجًا من الغضب والمرارة والهزيمة انعكست على عينيه وملامحه دون الحاجة لأي بكاء أو صراخ.
يُحسب لنيللي كريم قبولُها دورًا صغيرَ المساحة والتأثير، وكأنها بمجرد وجودها كنجمة تدعم هذا المشروع، كما لعبت حنان يوسف دور الأم بإتقان شديد وبتعبير لافت عن حيرتها، بين رفضها لسلوك الابن غير المشروع وإشفاقها عليه وتعاطفها معه، حتى تتقبل منها أن تشارك في لعبة التواطؤ على هذه الجريمة.
في اعتقادي أن فيلم فوي فوي فوي -ورغم أي تحفظات- هو واحدٌ من أفضل الأفلام المصرية التي شاهدناها مؤخرًا، وأنه يستحق بالفعل تمثيل مصر في مسابقة الأوسكار أيًّا كانت النتائج.
المصدر: سوليوود