“الرصاصة لا تزال في جيبي”.. ما بين الإخلاص للنص والإخلاص للسينما!
رامي عبدالرازق
في أعقاب هزيمة يونيو 1967 كتب إحسان عبد القدوس قصته الشهيرة «الهزيمة كان اسمها فاطمة» عن فاطمة الفتاة “المُهجرة” القادمة من مدن القناة التي تم ترحيل سكانها عقب الحرب نظرًا لتعرّضها للقصف المستمر من قبل القوات الإسرائيلية برًّا وبحرًا وجوًّا. في القصة تضطر فاطمة الجميلة إلى أن تبيع جسدها من أجل المال والطعام، ومن خلال قصة سقوطها يدين إحسان الدولة والمجتمع الذي انساق وراء حرب لم يكن مستعدًّا لها! ولم يدفع ثمنها فقط الجنود الذين قُتلوا على الجبهة، ولكن حتى النساء والأطفال الذي شردوا وتُركوا في عراء الطريق.
ثم قبيل حرب أكتوبر بقليل يكتب إحسان قصته الطويلة «رصاصة واحدة في جيبي» والتي يتوقف فيها عند حرب الاستنزاف عام 1969 وتحكي قصة شاب ريفي يتطوع للقتال في الجيش المصري من أجل أن يتدرب على السلاح لكي يعود إلى بلدته وينتقم من عباس بيه السياسي رمز السلطة الفاسدة الذي اغتصب «فاطمة» ابنة عمه وحبيبته.
نلاحظ بالطبع دلالة اسم فاطمة في قصة “رصاصة واحدة” وارتباطها بقصة «الهزيمة»، في القصة الأولى فاطمة هي مصر التي انحدر بها الحال عقب الحرب، وفي القصة الثانية هي مصر التي تركت نفسها تُغتصب على يد مجموعة من الساسة الفشلة، بينما انحسر دور المثقفين في الغرق داخل النظريات والمُثُل العُليا والفلسفة.
في أعقاب حرب أكتوبر مباشرة يرجع إحسان إلى قصة الرصاصة، ويكتب لها جزءًا ثانيًا ينتهي بالعبور، ويطلق عليها “الرصاصة لا تزال في جيبي”، حيث يعود البطل المثقف النظري بعد أن صار مقاتلاً منتصرًا، لكنه يظل يسحب من سلاحه رصاصة، كرمز لاستعداده الدائم الدفاع عن فاطمة والقتل من أجلها.
ثم يصدر إحسان القصتين في رواية واحدة بهذا العنوان، ويختمها بإحدى جمله المكثفة الفخمة: «ستبقى الرصاصة في جيبي ما دام هناك يهودي على أرضي. إن أرضي تبدأ من سيناء».
يمكن هنا أن نشير إلى أن إحسان عبد القدوس على حد قول الدكتور رشاد الشامي في دراسته القيمة “الشخصية اليهودية في أدب إحسان عبد القدوس” والصادرة في كتاب الهلال، يرى: “أن أحدًا لم يولِ اهتمامًا في أعماله الأدبية بالشخصية اليهودية في المجتمع المصري بالقدر الذي أولاه إحسان عبد القدوس في عديد من أعماله، بحيث وصلت إلى روايتين وست قصص قصيرة”.
بل إن مجموعته القصصية “الهزيمة كان اسمها فاطمة” تتصدرها قصة “أين ذهبت صديقتي اليهودية؟” التي يتحدث فيها عن علاقة اليهود المصريين بالمسلمين والمسيحيين قبيل حركة الجيش عام 1952. وفي عام 1978، أي بعد الحرب بسنوات قليلة، يصدر روايته «لا تتركوني هنا وحدي» التي تستعرض قصة فتاة يهودية وُلدت في القاهرة، لكنها ترفض الهجرة من مصر إلى إسرائيل، وتظل تعيش فيها حتى بعد الحرب! أمّا لماذا استخدم إحسان لفظة «يهودي» كوصف للعدو في قصته ولم يستخدم «إسرائيلي»! فأغلب الظن أنه لجأ إلى اللفظة الشعبية المتداولة على لسان المصريين آنذاك، حين كان الشارع المصري يستخدم تلك اللفظة للدلالة على العدو الذي ظهر عام 1948، وأُطلق عليه حينئذ عصابات اليهود.
ولكن عند تحويل رواية الرصاصة إلى فيلم في عام صدورها نفسه، من بطولة محمود ياسين وإخراج حسام الدين مصطفى 1974، استبدل إحسان الذي كتب حوار الفيلم، بلفظة اليهودي لفظة الإسرائيلي، دلالةً على أن الصراع سياسي، وتأكيدًا على أن العداء الحقيقي لدولة إسرائيل، وليس لليهودية كديانة.
بين الرواية والصحافة
تتخذ رواية الرصاصة شكل لقاءات صحفية مطولة مع جندي مصري شارك في حربي الاستنزاف وأكتوبر، ولكن حُذفت أسئلة المحاور وبقيت الإجابات في سردية طويلة، تبدو كأنها سرد خطي عادي، لكن الاستغراق فيها يكشف عن محاور زمنية تكسر التدفق الزمني وتعيد إنتاج الأحداث بما يتناسب مع إثارة ذهنية القارئ، وتوريطه في أصل الأزمة السياسية التي أدت إلى كل هذه الحروب.
يحكي الجندي في الرواية قصته على أربعة محاور زمنية ودرامية:
أولها: قصته مع حرب الاستنزاف وتنامي رغبته في القتل بسبب حبه لفاطمة بنت عمه وتحوله من طالب فلسفة إلى جندي من أجل أن يأخذ بالثأر لشرفه.
ثانيها: مرحلة التجنيد وعلاقته بالسلاح وهزيمة 67 وشبه الأسر الذي تعرض له في غزة.
ثالثها: الفترة التي قضاها في غزة، وكيف اختبأ وتم تهريبه ثم عودته وانتقاله من مكتب إلى مكتب في تحقيقات طويلة، إلى أن أصبح فدائيًّا في حرب الاستنزاف، ثم اشتراكه في حرب العبور وعودته حاملًا الرصاصة.
رابعها: بعد عودته إلى القرية يبدأ في سرد الفصل الأول الطبيعي في الحكاية حين يقول «هكذا بدأت القصة».
أي بعد 50 صفحة تقريبًا يستعيد الجندي حكايته مع عباس وفاطمة وأصل ما حدث.
في الفيلم يُعاد ترتيب السرد بصورة مختلفة تمامًا بناء على اختلاف الوسيط من ناحية وعلى اعتبار أن السيناريو كُتب بعد اكتمال الرواية تمامًا واتخاذها الشكل النهائي كسردية عن الفساد والحرب.
“أنا محمد المغاوري عسكري مصري ضاع بعد اللي حصل في خمسة يونيو”. هكذا تبدأ شخصية محمد المغاوري بطل الفيلم الحديث عن نفسها أمام ضابطي المخابرات الحربية اللذين جاءا للتحقيق معه عقب عودته من سيناء متخفيًا عام 1967.
في القصة الأصلية تظهر شخصية المثقف الريفي الذي يتحول إلى جندي بلا اسم، وكأنها في تجريدها المطلق نموذج أو رمز لكل المثقفين الذين أدركوا مسؤوليتهم عن الهزيمة، وأرادوا أن يشاركوا في المعركة بشكل فعال لتحقيق النصر.
ولكن في السيناريو أُطلق على الشخصية اسم «محمد»، وهو أشهر الأسماء المصرية وأكثرها شيوعًا. وبهذا استطاع أن يحقق روح التجريد ولكن في قالب شعبوي يصلح لجمهور السينما الذي لن يقبل مشاهدة فيلم لا يعرف لبطله اسمًا، كما أن السياق الواقعي لرواية الأحداث استلزم أن يكون للشخصية اسم لأنها شخصية رئيسة فاعلة ومفعول بها ضمن حوار وحبكة وذروة وصراع متصاعد.
خطة الزمن
لا يُوجَد اسم محدد على تيترات الفيلم يحمل مسؤولية السيناريو بمفرده؛ فإحسان لم يكن يكتب سيناريوهات الأفلام المقتبسة عن رواياته بل يكتفي بكتابة الحوار، ومشاهد حرب 67 كتب لها السيناريو والحوار القدير رأفت الميهي بينما كتب سيناريو مشاهد حرب أكتوبر المنتج الكبير رمسيس نجيب الذي تولى مسؤولية الإشراف الفني على الفيلم ككل، وهو من إنتاج ابنه مراد.
يمكن القول إن سيناريو هذا الفيلم هو عمل جماعي بين مجموعة الأسماء المشار لها، بالإضافة طبعًا إلى المخرج حسام الدين مصطفى، ولما كانت الرواية غير خطية في سردها، فإن السيناريو حاول أن يعيد ترتيب الأحداث بصورة تناسب كثافة الزمن السينمائي وطبيعة المتلقي ودور الفيلم كعمل دعائي في ظل انتصار عسكري.
يبدأ الفيلم بعودة محمد من غزة والتحقيق معه كما أشرنا، هنا يبدأ أول فلاش باك في استعادة محمد لظروف الهزيمة والاختباء في غزة وعلاقته برجل من بدو سيناء يدعى ذريعة، وظهور شخصية تدعى مروان –قدمها حسين فهمي، وشكوك محمد حول أنه عميل إسرائيلي مزروع وسط البدو، ثم يرجع محمد إلى القرية التي لا تزال تعاني سيطرة عباس بيه وكيل الجمعية الزراعية ومندوب السلطة في البلد –لا يتم تحديد اسم للبلدة الصغيرة كاستمرار للتجريد وشمولية لفظ البلد الذي يشير إلى مصر كلها.
تبدو إذن الافتتاحية والفصل الأول من السيناريو هما ترتيب للمحاور الأول والثاني لما ورد في الرواية، ولكن يقع السيناريو في بداية الفصل الثاني في خطأ تكنيكي ساذج، حيث يلتقي محمد بفاطمة بنت عمه المصابة باكتئاب شديد -بسبب اغتصاب عباس لها- حينئذ يبدأ كل من محمد وفاطمة في الحكي لبعضهما عما حدث، في استعادة لزمنهما الأول، هذا الحكي ليس الغرض منه سوى إبلاغ الجمهور بأصل ما حدث أو على حد تعبير الجندي في الرواية «هكذا بدأت القصة».
على الرغم من كون الفلاش باك قوة سردية ضاربة على مستوى الجذب وإعادة قراءة الماضي على ضوء الحاضر، لكن فكرة أن تحكي الشخصيات لبعضها ما تعرفه هي مسألة بدائية سينمائيًّا، وهي ليست البديل الأمثل للتداعي أو للسرد غير الخطي في الأدب، بل يمكن عدُّها من ميراث المسرح الذي لم يعرف الفلاش باك الصريح إلا متأخرًا، وبحكم تقنيات الصورة صار من الممكن الفصل بين زمنين في السينما دون اللجوء إلى مسألة أن تحكي الشخصيات لبعضها ما عاشوه بالفعل، وكل منهم يعلمه، لمجرد إعلام الجمهور!
الإخلاص للسينما!
ينتهي الفلاش باك الطويل البدائي، ضمن أحداث الفصل الثاني وصولًا إلى نقطة البدء، وهي عودة محمد إلى القرية ومحاولة مواجهة عباس، وهي مواجهة ساذجة تتلخص في رده العنيف عليه عندما يطلب عباس أن يطلب محمد يد فاطمة بنت عمه بعد أن طالهما كلام الناس، ويحذف السيناريو تاريخ علاقة الصداقة بين عباس والجندي –وهي علاقة رمزية تكمن في مصادقة السلطة في تلك الفترة للمثقفين قبل عزلهم- ويحذف أيضًا حديث الجندي عن التدريب على القفز بالمظلة ويستبدل به تدرّبه على النشان من أجل قنص عباس ذات يوم.
ويمكن أن نرى الباعث على وجود شخصية مروان الذي يكشف السيناريو أنه ضابط الصاعقة المسؤول عن محمد في الوحدة الخاصة، فهو نفسه الضابط محمود في الرواية، الذي تربطه علاقة ودية بالجندي، وهي العلاقة التي تبني عليها كامل شخصية الضابط في الفيلم.
كذلك تظهر شخصيات خليل وعبدالرؤوف زميلي محمد في الوحدة الخاصة في الفصل الخاص بمعارك الاستنزاف، ولكنهما يُستشهدان في الرواية، في حين أن رؤوف فقط هو الذي يستشهد في معركة القنطرة شرق بالفيلم، بينما يتحول خليل إلى صديق البطل المهرج لخلق حالة تخفيف لقتامة الأحداث.
نلاحظ أيضًا في السيناريو أن القرية «متفرنجة» أكثر من اللازم رغم كونها بلدة ريفية، خاصة فيما يتعلق بشخصياتها الرئيسة: محمد وأخته وفاطمة ابنة عمه التي نراها ترتدي ملابس حديثة وقصيرة، وتتحدث بلهجة قاهرية صرفة، حتى محمد نفسه يتحدث كأنه من أبناء القاهرة، وكذلك شخصية عزوز، وهو شخصية غريبة لا ندري ما هو عملها بالضبط في القرية غير توصيل محمد من وإلى محطة القطار، وإبلاغه بقدوم عباس بيه إلى البلدة أو رحيله عنها واختفائه! حيث تبدو الشخصية لسان حال السيناريست في توصيل المعلومات إلى الجمهور عبر حكيها لشخصية محمد، وهو ما سبق وأشرنا إليه على كونه أسلوبَ سردٍ بدائيًّا غير مُخلص للسينما.
المصدر: سوليوود