“الشيطانيون” لهنري جورج كلوزو: عندما تتلاعب السينما بالمُشاهد
هوفيك حبشيان
يحار المرء من أين يبدأ في الحديث عن سينما المخرج الفرنسي هنري جورج كلوزو “1907 – 1977” من كثرة تشعّبها وتميّزها والذكرى الطيبة التي تركتها فينا، هو الذي أنجز خمسة عشر فيلمًا طويلًا في حياته القصيرة نسبيًّا، وكلها أفلام على قدر من الأهمية، وبعضها أُنتِجت نسخات ثانية لها في هوليوود، كحال “الشيطانيون” الذي عُرض في العام 1955، وكان أحد الأفلام العشرة التي حقّقت أعلى الإيرادات داخل فرنسا في ذلك العام.
أما تأثيره في السينما، فتلك رواية أخرى، إذ لا تُحصى الأفلام التي حاولت تقليد “الشيطانيون” أو تعقّب أثره. حتى هيتشكوك كان يغار منه، ويتردد أنه رغب في أفلمة الرواية التي اقتبس منها، لكن كلوزو سبقه.
“الشيطانيون” مستوحى من كتاب “تلك التي ما عادت” لبوالو-نارسيجاك، وهما الروائيان الفرنسيان المتخصصان بالقصّة البوليسية، اللذان اقتبس ألفرد هيتشكوك روايتهما “من بين الأموات”، مُحوِّلًا إياها إلى “فرتيغو”. أفلمته للرواية جعلت من كلوزو سيد سينما التشويق الفرنسي، بعدما كان عُرف قبل ذلك بأفلامه ذات المناخات القاتمة والمواضيع السوداوية الضاغطة على قلوب المشاهدين، على غرار هيتشكوك، سيد النوع نفسه خلف الأطلسي، لكن فوارق عدة نلحظها بين المخرجين عند معاينة أعمالهما، لا سيما على مستوى الإيقاع والتصعيد الدرامي. كان كلوزو رؤيويًّا، مشاكسًا، يبحر عكس التيار، فبقيت أفلامه وعاشت وصمدت أمام الزمن.
في فرنسا ما بعد الحرب، كان كلوزو في ذروة شهرته وتألقه، ينجز ما يريد ويحصل على الموازنة التي يحتاج إليها، فوجد في “الشيطانيون” مناسبة لتصوير الإنسان في لحظة مواجهة شياطينه على طريقته الخاصة، فدفع كلّ ما تتيح له السينما من عناصر “تمثيل، جماليات بصرية، موسيقى”، إلى حدوده القصوى، لإنجاح هذا المشروع الذي يتناول رواية من روايات الانحطاط الآدمي.
في مقابلة، يقول كلوزو الذي اشتهر بتعامله القاسي مع الممثّلين “مُدان بمعايير اليوم”، إنّه لا يمكن نقل القلق والوسواس والضغط النفسي إلى السينما إذا كان المخرج نفسه لم يشعر بهذا كله على موقع التصوير، مشددًا على أنه في غياب هذا الانتقال، لن يحدث أي شيء في الفيلم. والقول إن أشياء كثيرة تحدث في “الشيطانيون”، وذلك في فترة بضعة أيام قليلة، هو الإذعان لفكرة أن ما يحدث يأتي من سلطة المخرج الواقف خلف الكاميرا، وسلطة الخيوط التي يلعب بها. هذا المخرج هو الذي يعظّم الحدث وهو الذي يعيده إلى حجمه الطبيعي. هذا فيلم يشغل فيه المخرج الصدارة، كما كانت الحال في أفلام هيتشكوك. العناصر كلها في خدمة رؤيته، لا العكس.
تجري أحداث الفيلم داخل مدرسة داخلية خاصة في منطقة سان كلو القريبة من باريس. هذه المؤسسة التعليمية التي سنتسلل إليها خطوة إلى الأمام وخطوة إلى الخلف، كما هي العادة في أي مقدّمة فيلم فرنسي، يشرف عليها مدير متسلّط طاغية اسمه ميشال دو لاسال “بول موريس”، علمًا أن ملكية المدرسة تعود إلى زوجته كريستينا “فيرا كلوزو” التي يسيء معاملتها ويهينها أمام الجميع. لميشال علاقة خارج الزواج مع إحدى المعلّمات تُدعى نيكول “سيمونّ سينيوريه”، لكن علاقة ود تجمع الامرأتين أيضًا بسبب كرههما المشترك لهذا الرجل البغيض ذي السلوك البشع الذي يتعامل مع الجميع بازدراء وعنف وفوقية، حدَّ أن نيكول تقنع كريستينا بضرورة التخلّص منه عن طريق قتله. لكلّ واحدة منهما طباع تتناقض مع طباع الأخرى، فنيكول هادئة تبدو عليها ملامح الارتياح، متأكدة ممّا تفعل وحمّالة أوجه لا تؤمن بوجود جحيم، على عكس كريستينا، الهشّة المتوتّرة الواقفة دائمًا على حافة الانهيار. هؤلاء الثلاثة يشكّلون «مثلّثًا غراميًا» على الطريقة الفرنسية، سيزداد حضوره في أفلام العقود التالية، وفي هذا المجال أيضًا كان كلوزو سبّاقًا وطليعيًّا.
لا أعتقد أنني سأكشف الكثير عن الحبكة إذا قلتُ إن السيدتين ستنجحان في قتل الرجل. لكنه بعد موته سيزداد حضورًا، وطيفه سيبقى فوق أكتافهما لبقية الفيلم، خصوصًا مع اختفاء جثّته، ليدخل الفيلم بعد الجريمة في فصل جديد من إشاعة أجواء الضغط النفسي المتواصل ضمن مناخ سينمائي يمسكه المعلّم بيد من حديد وكفّ من مخمل. هذا الفصل كله سيدور على كريستينا الضائعة بين إحساس الندم والحيرة وعذاب الضمير والشعور المُزمن بأن القتل لم يكن فكرة جيدة، ذلك أن ظلال الرجل المغدور في كلّ مكان.
هذا كله سيكون له تأثير كبير على المُشاهد الذي سيتعاطف مع كريستينا، بسبب أنه يعرف جيدًا ما الذي قادها إلى الجريمة، وكيف كانت مترددة في لحظة من اللحظات، لكنها انزلقت إليها بعد مقاومة طويلة، ما سيجعلها الضحية والمرتكبة في آن معًا، انسجامًا مع فكر كلوزو الذي يفضل تقريب الأضداد بعضها من بعض، ملغيًا الحدود بين الأشياء. في هذا الجزء، يقف الفيلم في معسكر كريستينا، ليطلق العنان لمخيلته التي تحكمها الوساوس والهواجس، علمًا أنه يمدّنا ببعض اللمحات التي لن تساعدنا كثيرًا لمعرفة الخاتمة.
الخاتمة هذه، لا بد من الحديث عنها. يطلب كلوزو من المشاهدين ألا يكشفوها في حديثهم عن الفيلم مع أصدقائهم. لأن الفيلم كله في خاتمته. مفعولها مفعول «قنبلة» ستنفجر في وجه المُشاهد، لكنها ستكون لصالحه لما ستتسبب له من نشوة. إنها السينما بكلّ جبروتها التي ترمينا في ثانية واحدة، من ضفّة إلى ضفّة، لتزعزع ثقتنا بأنفسنا، بعد أن ندرك أن كلّ ما شاهدناه إلى الآن لم يكن سوى وجهة نظر، نتيجة قدرة السينما على توظيف القطبة المخفية لأطول فترة ممكنة قبل كشفها المدوي، فنعود إثر ذلك إلى الخلف في رحلة ذهنية سريعة لنستعيد التفاصيل التي تؤكد ما رأيناه. يحجب كلوزو الواقع، عبر تقنية سرد كانت ستصبح مدرسة في العقود التالية. وفي هذا المجال، لا يُخفى على أحد التأثير الذي كان للفيلم على السينمائيين الذين جاؤوا من بعده. عند هيتشكوك مثلًا، يكون المُشاهد مطّلعًا على الملابسات أكثر من اطلاع الشخصيات عليها، أما هنا، فالمُشاهد والشخصية متساويان في عدم المعرفة.
إذا كانت ثمة تيمة تتكرر في أفلام كلوزو فهي الشر وينابيعه. كان هذا واضحًا في فيلمه «أجر الخوف» والعديد من أعماله، وهو بالوضوح نفسه أيضًا في “الشيطانيون”، حيث يزج بنا بين الطلبة، وذلك بهدف تشريح العلاقة بين الإدارة وأساليب التربية التي تنتهجها والطلاب الذين يعيشون بداية وعيهم على الحياة، وسنرى أن أسلوب القائمين “الرجال” على التعليم ستكون آثاره سلبية. ثم كيف يمكن تسليمهم إلى جهة ثلاثية الأطراف يسعى كلّ طرف فيها إلى تصفية الآخر؟ لا شك في أن الفيلم ثري ويتكون من طبقات ويتيح قراءات متعددة، لكن هذه واحدة من تلك القراءات التي تستحق التوقّف عندها.
الشر دائم الحضور عند كلوزو، ولكن ليس على النسق الهوليوودي الأحادي، هو لا يتجسّد في الأحداث العابرة، ولا يجوز التعرف إليه بسهولة لأنه متأصل في الشخصيات كلها، متغيّر، متبدّل، حاضر وغائب في آن معًا، يحمل مسمّيات مختلفة وفق السيرورة التي ينخرط فيها والأسباب التي تبرره. وهذه حال «الشيطانيون» الذي يشعرنا بأن الشر يضع الشخصيات في زوبعة لا فكاك منها، وسيقضي عليها مهما فعلت.
يضعنا كلوزو في هذا الفيلم في مواجهة مع ثلاث شخصيات لا تملك أي ميزة وليست موهوبة في شيء وغير قادرة على الكثير، لكن المنافسة بينها محتدمة، والصراع على البقاء في أوجّه. سبق الفيلم زمانه من خلال تفكيك السيطرة الأبوية والاستغلال والطبقية ومكان المرأة العاملة في المجتمع، لكن من دون أن يغدو بالضرورة فيلمًا عن كلّ هذه المسائل الشائكة، فلا موضوع يستحق تناوله في نظر كلوزو إذا لم يسلّم نفسه لسردية وملابسات وخط تشويقي يمسك بأعصاب المُشاهد على طول الدقائق الممتدة. لم يكن كلوزو أستاذا محاضرًا، ولم يهتم بتلقين المُشاهد درسًا، وفي هذا يلتقي هيتشكوك الذي لم يتناول قط مسألة باستخدام مفرداتها الخاصة.
الماء وخريره، يضطلعان أيضًا بدور مهم في الفيلم. الماء متجسِّد في نواح كثيرة. لكنه لم يكن يومًا بهذه الخطورة، أكان في حوض السباحة أم داخل المغطس. فهو يغلق على الأسرار. يوظّف كلوزو الماء على نقيض توظيفه التقليدي الذي لطالما ارتبط بالشفاء أو العلاج أو التطهير. أما الحمّام، وهو أضيق الأماكن في البيت، فيغدو مسرحًا للجريمة. ربط كلوزو هذا المكان بالرعب والإثم، ليعود ويكرسه هيتشكوك، مكانًا للرعب مع «سايكو»، من خلال مشهد الدوش الشهير.
إذا أضفنا إلى هذا كله عظمة اللونين الأسود والأبيض “تصوير أرمان تيرار”، الكافيين لإدخال الكثير من الالتباس إلى الفيلم وجعله ينعكس على الشخصيات والأحداث، فنحصل على إحدى روائع السينما التي لا تزال قادرة على صناعة الدهشة، رغم مرور نحو سبعة عقود.
المصدر: سوليوود