في “جماليات” السخرية.. من تجلي الحداثة الفائقة!
أشرف راجح
تطرح النجمة الهوليودية الجميلة “ميجان فوكس” رأيًا يبدو مثيرًا للاهتمام أثناء حوار ترويجي أجرته حول فيلمها الحديث Expendables 4 أو “المرتزقة 4″، المعروض مؤخرًا في شهر سبتمبر الماضي، حيث يرجع قسط كبير من نجاح تلك السلسلة الممتدة من الأفلام منذ الجزء الأول عام 2010 حتى هذا العام إلى كونها أفلامًا “تسخر من نفسها”!.
سلسلة أفلام المرتزقة Expendables التي ابتكرها النجم والكاتب والمخرج “سلفستر ستالون” تقوم على “المدرسة القديمة” في أفلام الحركة وجمع عدد كبير من النجوم والأبطال متنوعي الشخوص وأساليب القتال. فسلفستر ستالون في دور “بارني روس” هو محارب قديم شبه عسكري وقائد للفريق، والنجم “جيسون ستاتوم” في دور “لي كريسماس” القائد الثاني للفريق هو جندي سابق وخبير في السلاح الأبيض، أما نجم الحركة “جيت لي” فيلعب دور «ين يانغ» الصيني الخبير في فنون الدفاع عن النفس، وكذلك “دولف لندجرن” هو “جانر جنسن”، القناص السويدي الذي يكره «ين يانغ» ويتعارك معه في كثير من الأحيان، وأيضًا عودة ظهور لنجم قديم هو “ميكي رورك” في دور “توول” المرتزق السابق الذي صار يعمل رسامًا للوشم وتاجر أسلحة، إلى جانب “تيري كروز” صديق يين واختصاصي الأسلحة، و”راندي كوتور” خبير المفرقعات. كل هؤلاء أرسلوا في مهمة قتالية شبه مستحيلة إلى بلد في أميركا الجنوبية بهدف إسقاط حاكم طاغية. وعندما تبدأ المهمة يكتشف الفريق أن الوضع ليس كما كان يبدو، حيث يجدون أنفسهم محاصرين نتيجة لخيانة في صفوفهم. ولكن المهمة تكللت بنجاح دموي في النهاية.
ويوجههم خلال الأحداث النجم الكبير “بروس ويليس” في دور “السيد تشرش” الشخص الذي استأجر المرتزقة، ويناوئه “أرنولد شوارزنيجر” “ترنش” المنافس القديم له، ويظهر حاكم كاليفورنيا في الحياة – آنذاك – الممثل الشهير أرنولد شوارزنيجر كضيف شرف في الفيلم. وفي المشهد القصير الذي يشاركه فيه نجمي هوليوود الكبار سلفستر ستالون وبروس ويليس يدور الحوار بين الثلاثة بكلمات تغمز إلى الواقع حين يقول ستالون لشوارزنيجر إنه كان يعمل معه سابقًا في نفس المجال في إشارة إلى مجال التمثيل، أو في نهاية المشهد حين يقول ستالون إن شوارزنيجر يريد أن يصبح رئيسًا في إشارة إلى رغبة الأخير الحقيقية في الوصول إلى البيت الأبيض، حيث كان يسعى لتغيير المادة القانونية التي تمنع الأميركيين المولودين خارج البلاد من الترشح لكرسي الرئاسة. وبالطبع، فإن مثل تلك الغمزات الساخرة تعلي من قبول الجمهور للفيلم، إلى جانب التركيبة الدرامية للبطولة الجماعية التي نستطيع أن نرصد نجاحاتها المدوية على مر تاريخ السينما من “العظماء السبعة” المأخوذ عن الفيلم الياباني “الساموراي السبعة” ومن بعدهم «شمس الزناتي» المصري، وكذلك الفيلم الحربي الكبير “مدافع نفارون” وغيرها الكثير.
وتتوالى السلسلة الناجحة في The Expendables 2 عام 2012 الذي اعتبره بعض النقاد تطورًا عن سابقه من حيث زيادة مشاهد الفكاهة وكذلك تعقيد مشاهد الحركة، وشهد معظم أبطال الجزء الأول مع إضافة «أبطال» كبار مثل “تشاك نورس” في دور «بوكر»، و«أشرار» كبار مثل «جون كلود فان دام» الذي لعب دور «جين فيلين» الشرير الرئيسي. وفيه يقوم السيد تشرش بإرسال بارني روس وفريقه إلى منطقة في الاتحاد السوفييتي السابق لاسترجاع غرض سري كان على متن طائرة قد تحطمت هناك، ولا يخبره عن ماهيته ويرسل معه امرأة غامضة تدعى ماجي للتأكد من حصوله عليه. يحصل الفريق على الشيء المطلوب، لكن فيلين ورجاله يأخذون أحد رفاق بارني وهو الشاب اليافع «بيلي» الذي لعبه النجم الأسترالي الشاب «ليام هيمسورث» كرهينة، ويخبرهم فيلين بأن عليهم إعطاءه ما حصلوا عليه وإلا سيقتل الرهينة. يسلم بارني الشيء له، ولكنه يقتل الرهينة بيلي مع ذلك. ماغي تخبر بارني بأن ذلك الشيء يحتوي على خريطة تدل على منجم لتخزين البلوتونيوم الروسي. يقرر بارني تتبع ذلك الرجل فيلين ورفاقه للقضاء عليهم. يصلون إلى بلدة ما حيث يطبق عليهم رجال فيلين، لكن ينقذهم بوكر أحد المرتزقة الذي يحب العمل منفردًا ويسمونه الذئب الوحيد، يدلهم على قرية ليس بها إلا النساء حيث أخذ فيلين الرجال للعمل في منجم البلوتونيوم، ليتعاون الجميع في القضاء على فيلين وعصبته.
أما في الجزء الثالث الذي قدم بعدها بعامين، فيضاف النجم «أنطونيو بانديراس» في دور «جالجو» القناص البارع والجندي السابق في القوات المسلحة الأميركية والمقاتل المخضرم في حرب البلقان، إلى جانب النجم «ويسلي سنايبس» الذي يلعب الشخصية المحورية «دوك» الطبيب السابق وأحد المرتزقة الأصليين، ومعهم «ميل جيبسون» الذي يؤدي دور «كونراد ستونبانكس» الشرير الرئيسي تاجر سلاح غير شرعي فاسد وعنيف شارك من قبل في تكوين فريق المرتزقة، ثم «هاريسون فورد» الذي يقوم بدور «ماكس درامر» الضابط السابق في وكالة الاستخبارات الأميركية وطيار فريق المرتزقة. إلى جانب عودة أرنولد شوارزنيجر في دور ترنش زميل بارني السابق في الفريق. وفيه يذهب قائد فريق المرتزقة بارني روس لتحرير رفيقهم والعضو السابق في الفريق دوك من سجن عسكري أثناء نقله إليه على متن القطار، ثم يقومون بتجنيده لمساعدتهم في اعتراض شحنة من القنابل من المفترض أن يتم تسليمها إلى أحد أمراء الحرب في الصومال.
وعند وصولهم إلى المكان المحدد لتسليم القنابل يندهش روس عندما يجد أن تاجر الأسلحة الذي يقوم بتوفير القنابل هو كونراد ستونبانكس ميل غيبسون، وهو أحد المشاركين في تأسيس الفريق مع روس قبل أن يصبح فاسدًا ويتاجر بالأسلحة، وقد اعتقد روس أنه ميت حيث كان قد أطلق عليه الرصاص في الماضي. في المعركة التي تلت ذلك يضطر الفريق إلى التراجع لعدم قدرتهم على الصمود أمام أسلحة ستونبانكس المتطورة. في الولايات المتحدة، يقوم عميل وكالة الاستخبارات المركزية ومدير مهمات فريق المرتزقة ماكس درامر هاريسون فورد، بتكليف روس لإيجاد ستونبانكس وتسليمه للمحكمة الجنائية الدولية ليحاكم بتهمة ارتكاب جرائم حرب. يلوم روس نفسه ويقوم بتفكيك الفريق القديم خوفًا من تعرضهم للقتل، ثم يبدأ في تشكيل فريق جديد من المرتزقة الشباب، ومن ضمنهم جندي سابق في قوات مشاة البحرية، وحارسة ملهى ليلي، وخبير كومبيوتر، وخبير أسلحة. إلى جانب القناص الماهر جالجو «أنطونيو بانديراس» الذي دعا إلى إدراجه في الفريق ولكن روس رفض ذلك. قابل الفريق الجديد صديق روس القديم ترنش «أرنولد شوارزنيجر» الذي اقتفى أثر ستونبانكس إلى رومانيا حيث من المقرر أن يعقد صفقة أسلحة هناك.
يُلقى روس في النهر، في حين يتم أسر بقية أعضاء الفريق الجديد من قبل ستونبانكس. يستعد روس للمواجهة وحده، يقابله جالجو ويعرض عليه خدماته مجددًا. يوافق روس هذه المرة على إعطائه الفرصة، ثم يرافقه فريق المرتزقة القديم أيضًا. يقوم الفريق بمداهمة المبنى المستهدف ويحررون أعضاء الفريق المحتجزين غير أن ستونبانكس يخبرهم بأنه زرع المكان بأكمله بالمتفجرات. يصل درامر وترنش بمروحية من أجل مساعدة الفريق يرافقهم عضو الفريق المتقاعد ين يانغ «جيت لي»، ويقوم الفريق الجديد والقديم بدعم بعضهم البعض للتغلب على رجال ستونبانكس. يقبل روس رسميًا جالجو والجدد كأعضاء في الفريق إلى جانب القدامى، ويحتفلون جميعًا.
أما في الجزء الرابع الذي انتظر الجمهور قرابة العقد الكامل من الزمن حتى يظهر، فقد استمرت السلسلة على نمطها الإنتاجي من حيث ترصيع السلسلة بالنجوم الكبار مثلما الحال مع النجمة السوبر «ميجان فوكس» والنجم «أندى جارسيا»، بالإضافة إلى نجم الغناء «فيفتي سنت»، إلى جانب تركيبة الحبكة حول مهمة قتالية شبه مستحيلة تنتهي بنصر مرير. ولكن ما تطور بشدة في هذا الجزء هو نسبة الكوميديا الساخرة، التي تدعم مناطق «التنفس الإيقاعي» الذي نحتاجه عقب كل مواجهة أو معركة. حتى إنها امتدت أحيانًا إلى نطاق تلك المشاهد ذاتها. وبالعودة إلى مفتتح هذا المقال ومقولة النجمة ميجان فوكس تعليقًا على السلسلة، نجد أن التأثير الفكري للعقد الماضي الذي مر كان ملحوظًا بقوة على هذا الفيلم الذي يبدو في النهاية فيلم حركة تقليديًا، ولكنه في الحقيقة فيلم يسخر من نفسه ومن نوعيته في آن، وكأنه يكشف سر اللعبة الذي تحرص دائمًا الأعمال الفنية على إخفائه.
يورد «ديفيد بوردويل» في مدخل كتابه عن سينما هوليوود الكلاسيكية، رأيًا يطرحه إرنست جومبريش Ernest Gombrich مؤرخ الفنون عن كيفية التعامل مع التراث السينمائي الذي يقدم عناصره الأسلوبية الكلاسيكية من خلال حلول فنية تتكرر في عدد كبير من الأعمال التي تقودنا لتقديرها من ناحية، ولكن من ناحية أخرى تذهب بنا إلى الاستثناءات التي تفتننا بتأملها، فنستطيع أن نلج بعقول منفتحة إلى العناصر غير الكلاسيكية التي تفتح لنا باب الاكتشافات الطازجة. هذا في تقدير الأفلام التي تصنف نقديًا على أنها تنتمي لما بعد الحداثة Post Modernism وتعتمد على استخدام “قائمة خاصة بالنوع” لها، تتوخى تجاورًا لعدد من عناصر مختلف الأنواع، أي أنها قائمة لأنواع واتجاهات وتيارات فنية متعددة.
ويضرب الناقد «نيك لاسي» مثالًا بفيلم «حكايات شعبية» Pulp Fiction 1994 للمخرج تورينتين كورينتينو، الذي تتجاور فيه عناصر من أفلام العصابات والفيلم الأسود وأفلام الملاكمة وأفلام الحرب، إلى جانب لمسات أسلوبية من الموجة الجديدة الفرنسية واقتباسات من أفلام أخرى، إنه Bricolage أو ما يترجمه المعجم «تكوين ارتجالي» نسبة إلى تعامل البناء التقليدي مع مختلف المواد المتاحة واستخدامها بصرف النظر عن درجة تجانسها، ونستطيع أن نطلق على Bricolage أيضًا «الترقيع الفني» وهو ما يعرفه لاسي بأنه كمزج كهربائي لنماذج معرفية متعددة تتولد خلالها الدلالة من قطاع عريض من الأنواع الفيلمية. إذ نتلمس تطور مفهوم المحاكاة التقليدي من محاكاة «الواقع»، إلى محاكاة «نموذج فني»، وصولاً إلى إنتاج «عالم فني جديد».
وإذا كانت سينما ما بعد الحداثة قد برعت في إجراء تلك العمليات الحرة من التداخل الإبداعي، فإن الحداثة الفائقة Ultra Modernism التي نحياها، في عالم لحظي مفتوح لثقافة الاستهلاك ومتعة التفاهة، قد تحولت فعليًا من حولنا إلى عالم يسخر من نفسه بكل ما تحمله الكلمة من معنى. عالم تقدم به إحدى وكالات الأزياء الشهيرة واجهات عرض تعتمد في انتشارها على تجسيد لمشاهد شديدة الإيلام من مأساة التطهير العرقي الجاري على الأرض الفلسطينية، من أجل الترويج التجاري!
والحقيقة أن مقولة كارل ماركس الشهيرة حول أن «التاريخ يعيد نفسه في المرة الأولى كمأساة، وفي المرة الثانية كمهزلة»، لا تبدو صادقة في يوم ما قدر تلك الأيام التي يتآكل بها المعنى شيئًا فشيئًا، تاركًا المجال مفتوحًا للسخرية.