آراءكُتاب الترند العربي

الثابت الذي فرق بين مايو وديسمبر

رشا كمال

منذ أن خطا اليوناني «ثيسبيس» على المسرح القديم للتمثيل أعلن بذلك النشأة الأولى للممثل في تاريخ الدراما. وتعددت من وقتها تقنيات التمثيل بما يتناسب مع المادة التي تتم محاكاتها. والشخصيات هي التي تنفخ الحياة في الفيلم الروائي، وتتنوع حسب أدوارها، وأهميتها في الحكاية. فهناك الشخصية الدائرية «Round» التي تتغير بتغير الأحداث التي تؤثر فيها وتتأثر بها، وهناك الشخصية المسطحة «Flat» التي تخدم الحكاية وتعكس مواطن القوة والضعف في الشخصيات الأخرى. وهناك نوع آخر، وهو الشخصية الثابتة «Static» التي كثيرًا ما يحدث اللبس بينها وبين الشخصيات المسطحة.

لا تتغير الشخصية الثابتة بتغير الأحداث، لكنها تحمل بداخلها كمًا من التعقيدات التي تشكلها، على عكس الشخصية المسطحة النمطية التي لا نلمس فيها أي تغيير طوال الحكاية. وتعتبر شخصية «كابتن أميركا» من أشهر الشخصيات الثابتة، وكذلك بطلة أحدث أفلام المخرج تود هاينز «مايو، ديسمبر» May December التي لعبتها «ناتالي بورتمان» في دور الممثلة إليزابيث بيري التي تذهب لدراسة شخصية سيدة مثيرة للجدل لتأدية دورها في فيلم سينمائي وهي جرايسي «جوليان مور» التي سجنت بسبب علاقة عاطفية مع مراهق يصغرها في العمر جو «تشارلز ميلتون»، ثم تزوجته بعد خروجها من السجن وأنجبت أبناءه.

تؤدي الشخصية الثابتة دورًا مهمًا في الكشف عن الكذبة التي يعتنقها العالم الذي تدخله، وأتاح سيناريو الفيلم هذا من خلال أسلوب التقصي الذي تقوم به إليزابيث في محاولتها لدراسة شخصية جرايسي. نراها بعد اللقاء الأول الذي جمع بينهما تسرد صفاتها الشكلية وانطباعاتها عنها، وتبدأ في دراسة وتقليد لغة جسدها، وأسلوبها في التحدث، وكذلك طريقتها في التعامل مع من حولها. ولم يتقيد السرد بوجهة نظر إليزابيث وحدها، فهناك وجهة النظر العلمية للمخرج التي تنتقل من شخص لآخر لكي تكتمل الحكاية، ويظهر لنا عوار هذا العالم.

كما تحث الشخصية الثابتة الشخصيات الأخرى على التغيير، ونتلمس هذا في شخصية «جو» الذي لم يكن واعيًا بشكل كامل بحجم ما أصابه من علاقته المريضة بجرايسي، فبدأ يتسرب التغيير لعالمه تدريجيًا من اللحظات الأولى التي قابل فيها إليزابيث، ومشاهدة صورها بتوق على الحاسوب، واضطرابه الواضح في مشهد زيارتها له في عمله. وسعى المخرج في الكشف عن هذا التغيير الذي يسعى «جو» إليه، ولا يقدر على القيام به، سواء على المستوى السردي بالعلاقة بينه وبين الإنسانة التي تشاركه على الإنترنت هوايته الطفولية بحماية الفراشات، أو من خلال القلق الذي يعتريه على أبنائه. وهناك مجاز بصري للتغيير متمثلاً في رحلة الفراشات من البيض الذي يعثر عليه، وحتى خروجها من الشرنقة وتحولها لفراشة يحررها في النهاية.

وكما ذكرنا في مستهل الحديث عن الشخصية الثابتة أنها تحمل جانبًا من التعقيدات يميزها عن الشخصية المسطحة، تنقسم شخصية إليزابيث إلى وجهين: وجه مستتر لا نعلم عنه شيء، والوجه الظاهر يتمثل في المعلومات البسيطة التي أتاحها لنا السيناريو؛ أنها ممثلة مشهورة، مرتبطة بشخص ما، وتبلغ من العمر 36 عامًا، وتتبع الأسلوب المنهجي في التمثيل، الذي يصفه واضعه «لي ستراسبورج»: بـ«أن الذاكرة العاطفية والحسية للممثل هي القناة التي يمكنه من خلالها الوصول إلى كل ما يحتاجه للعب الشخصية». لذا، ما نراه من إليزابيث هو الصفحة البيضاء التي تحاول ملأها من تقصيها عن المعلومات حول جرايسي، وتفصح بذلك في مشهد فصل التمثيل عن اختيارها للشخصيات التي تبدو بسيطة على السطح لكنها سيئة الجوهر، فتسعى كممثلة منهجية لمعرفة إذا ما كان فسادها هذا منذ الصغر، أم اكتسبته الشخصية عبر الأيام. وهذا ما ترمي إليه إليزابيث من دراستها لشخصية جرايسي التي يختلف مظهرها كثيرًا عما تضمره بداخلها.

تبدأ رحلة التقمص من الخارج للداخل، بداية من محاولة تقليد مظهر جرايسي الخارجي وصولًا لمحاولة الوقوف عند أسباب فعلتها الفضائحية، وكيفية تعايشها مع الواقع. في بداية الفيلم تضع اليزابيث مكياجًا ثقيلًا للعيون المرسومة، واختلفت ملابسها مع تطور الأحداث، ويبدأ التقمص بالظهور تدريجيًا على مظهرها الخارجي. فأصبح الماكياج أبسط، ومائلًا للمظهر الطبيعي، وكذلك هندامها مثل الشخصية الأخرى. مثل مظهرها في مشهد وضع الزينة، ومشهد إعداد الكعكة.

تصل إليزابيث لتحقيق هدفها، وتكلل ذروة شخصيتها بالمشهد الذي تصل فيه لأعلى درجات التقمص وهي تقف وجهًا لوجه تتحدث أمام المرآة أو للمتلقي في هذه الحالة، مستدعية بأدائها أسلوب جرايسي، ولثغتها في الكلام، ولغة جسدها التعبيرية. وكما تدرجت الشخصية في تقمص الأخرى، تدرج أيضًا أداء ناتالي بورتمان خلال المشاهد لتبدع في هذا المشهد، واختيار المخرج أن تكون اللقطة طويلة وأمامية، كثف بذلك من أثر أدائها وكلماتها المباشرة للمتلقي، لتكتمل بذلك الصفحة الخالية التي كانت عليها في بداية الأحداث. ورحلة دراسة الشخصية وراء تصميم العناوين في بداية الفيلم، التي كانت جوفاء، مجرد أُطر للأحرف، لتتحول في النهاية إلى خط سميك ممتلئ باللون.

ولكن لكي تصل إليزابيث إلى مرحلة التقمص الكاملة كما كان في المشهد سالف الذكر، كان عليها أن تتعمق في الجانب المظلم لهوسها بالمنهجية لمعرفة جرايسي معرفة حقة، فبدأ يتضح من أفعال إليزابيث أنها لا تختلف كثيرًا عنها، في نصب الشباك والاستغلال والتلاعب لكي تصل إلى أهدافها، فهي من البداية كانت تستعد لإغواء «جو» من حديثها معه على انفراد بعيدًا عن زوجته، ومشهد زيارتها له في العمل لتجربة إحساس التسلل خفية معه، وتوج مسعاها بمطارحته الغرام لكي تشعر بنفس الأحاسيس التي تشعر بها جرايسي.

ووصفت الممثلة ناتالي بورتمان المعضلة التي يقع فيها الممثل في تجسيد الشخصيات في أحد حواراتها:

«نحن نتطلع إلى تمثيل قلوب الناس، وفهم أرواحهم، وعقولهم، وكيفية عمل دواخلهم، لكننا أيضًا في النهاية نلتهم مشاعرهم بوحشية، من استغلالنا لمشاعرهم وقصصهم الحقيقية كمواد خام لدينا. هذه هي المفارقة الأخلاقية القاسية التي نواجهها عندما نفعل ما نفعله تجاه الأشخاص الحقيقيين».

نستطيع أن نستشف من هذا الحديث، الجانب المظلم والهوس بالمنهجية والتقمص الذي جسدته إليزابيث في اقتحام حياة الآخرين، واستغلالهم للوصول إلى غايتها.

والتعقيدات التي تحملها شخصية إليزابيث كانت تطفو على السطح من حين لآخر، عندما تطغى ذاتيتها في إصدار الأحكام على جرايسي، في مشهد تحدثها مع المخرج واستنكارها لقدرة جرايسي على التعايش مع عواقب فعلتها كل يوم، وكذلك مشهد شراء فساتين حفل التخرج، كانت تحاول إليزابيث طوال المشهد تقليد جرايسي في لغة جسدها وأسلوبها في التحدث والجلوس، لكن عندما أبدت جرايسي ملاحظتها المتسلطة على مظهر ابنتها، تغيرت ملامح إليزابيث، وتوقفت عن تقليدها، لندرك أن في تلك اللحظة هي الإنسانة، وليست الممثلة التي تحاول تقمص أخرى.

ومن جانبه حافظ المخرج على وجود فاصل بصري في الإطار بين إليزابيث وبقية الشخصيات طوال رحلة تقصيها، غير أن هذا الحائل المرئي تلاشى عندما اقتربت من جرايسي في مشهد وضع الزينة، ومشهد إعداد الكعكة. لكن كان يعود الفاصل المرئي في الإطار في لحظات وعي إليزابيث بمدى اعتلال شخصية جرايسي، مثل مشهد شراء فستان حفل التخرج، فصل المخرج بينهما داخل الإطار باستخدام انعكاسات المرآة التي كانت تعبر عن ازدواجية شخصية كل منهما.

وكما تكشف الشخصية عن الكذبة التي يعيشها العالم الذي اقتحمته إليزابيث – المتمثلة في مدى الضرر الواقع من اعتلال شخصية جرايسي على من حولها، واعتناقها للسذاجة في مواجهة حياتها كل يوم – نرى الكذبة التي تصدقها إليزابيث منذ البداية بقدرتها على معرفة شخصية جرايسي معرفة حقة؛ لذا تنهار دفاعاتها في مشهد المواجهة الأخيرة بينهما، عندما تعري جرايسي ذات إليزابيث المزيفة أمامها وأمام المتلقي.

تود هاينز، وحد رؤيتنا مع شخصية إليزابيث منذ بداية الأحداث، عندما توغلت كاميرته في العالم الذي هي بصدد اكتشافه، ووضع في يد شخصيتها الثابتة مفاتيح الكشف عن طبقات هذا العالم، دون محاسبة أحد.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى