فيلم Gone with the Wind.. سحر الحب العذب وسط الخراب
سماح عادل
فيلم Gone with the Wind، هو فيلم يحمل دفقة كبيرة من السحر والجمال، هو فيلم أميركي قديم وشهير، صدر في 1939، مأخوذ عن رواية “مارغريت ميتشل” “ذهب مع الريح”. يصور الفيلم قصة حب معقدة ومتشابكة، تمتد لسنوات من العذاب والمعاناة، وعلى خلفية قصة الحب تلك يستعرض أثر الحرب على نفوس الشخصيات، الحرب الأهلية التي وقعت في أميركا بين الشمال والجنوب في 1862.
سحر الأفلام القديمة..
تمتلك الأفلام القديمة سحرًا خاصًا بها، لأنها تعيد المشاهد إلى أجواء ساحرة يملؤها الخيال ويعطيها جمالها. حين بدأت في مشاهد الفيلم انبهرت بالصور الرائعة ومشاهد الطبيعة الساحرة والموسيقى التي تداعب الوجدان، والوضوح الشديد لكل التفاصيل. كما أبهرتني تحركات الكاميرا وهدوءها. الهدوء ساد الفيلم بشكل عام على مستوى مناظر الطبيعة والانتقال بين المشاهد، والوقفات الطويلة التي تعطي للمشاهد فرصة لالتقاط الأنفاس وهو يستمتع بهذا الكم من السحر.
كما تميز هذا الفيلم، كما بقية الأفلام القديمة، بأداء الممثلين وتعبيراتهم الرائعة التي تظهر على ملامح وجوههم، أو على نبرات أصواتهم، أو على طريقتهم في نطق الكلمات، أو حتى طريقتهم في عمل وقفات صامتة، في حين يتركون الأمر لعيونهم لتنطق هي بكلمات غير مسموعة.
وأيضًا أعجبني طول الفيلم الذي قارب الساعات الأربع، وكأنني دخلت في حكاية ساحرة لا أريد أن أخرج منها، وهذا الكم من الأحداث المتلاحقة التي تجعلني لا أستطيع استيعابها شعوريًا حتى تفاجئني بأحداث أكثر قسوة.
الحرب خراب كامل..
رصد الفيلم الحرب التي دارت بين الجنوب والشمال، وإن كان انتصر للجنوب؛ لأن أبطال الفيلم ينتمون إلى الجنوب، وبالتالي فقد قدم وجهة نظر الجنوبيين من الحرب، وكراهيتهم للشماليين، وقد صور مدى دناءة الشماليين الذين كانوا ينهبون البيوت ومزارع الأغنياء، وكانوا يتركون من عاش بعد الاجتياح القاسي يعاني الفقر والجوع. في حين صور الجنوبيين يدافعون عن أرضهم وبلادهم، رغم أن الجنوبيين كانوا يدافعون عن العبودية وعن ثرواتهم وامتيازاتهم كمالكين للعبيد وأصحاب مزارع ضخمة.
وإن كان الفيلم قد أظهر بعض السخرية من هذه الحرب على لسان بعض الشخصيات، حيث سخروا من عنجهية من بدأ تلك الحرب اللعينة ومدى ترفهم واستهتارهم بكل تلك الأرواح، التي ذهبت جراء حرب غير محسوبة. كما برع الفيلم في تصوير مشاهد الحرب بامتياز؛ وداع نساء الطبقة الراقية لأحبائهن وشعورهن الشديد بالحزن عند الوداع، وأيضًا فخر الرجال الزائف حين يذهبون للانضمام إلى الجيش وشعورهم بالكبرياء والغرور الذي أعماهم، كما رصد شعور النساء بفقدان أزواجهن.
وصوّر مدى فوضى الحرب وفظاعتها حين كانت البطلة “سكارليت أوهارا” تعالج المرضى وكانت ترى مشاهد تقطيع أجساد الرجال التي طالها العفن، ثم مشاهدها وهي تجري في الشوارع المزدحمة بأناس خائفين من قدوم الشماليين، ومعاناتها في إنقاذ «ميلاني» زوجة حبيبها «آشلي» وإنقاذ طفلها، وقوتها في أن تنقذها وتهرب بها إلى «تارا» وطن «سكارليت أوهارا».
ورصد قوة «سكارليت» في مواجهة فوضى الحرب حين تُفاجأ بهجوم الشماليين على «أتلانتا»، تلك البلدة التي كانت تعيش فيها مع “ميلاني”، وكيف أنها صمدت رغم تلك المآسي التي حلت بها حين تدمرت «أتلانتا» وحرقت بفعل الجنوبيين الذين كانوا يريدون ألا يتركوا ذخيرتهم للشماليين.
ثم في “تارا” بعد رحلة طويلة للهروب، تكتشف أن أمها ماتت وأن والدها فقد صوابه، وأن مزرعتها التي كنت تعدها وطنها نُهبت تمامًا، حتى لم يبقَ أي طعام ليؤكل. لكنها صمدت واستطاعت أن تقف على قدميها وتزرع القطن في أرض والدها وتعيل شقيقتيها والعبيد الذين تبقوا و”ميلاني” وطفلها الضعفاء بدنيًا. وبالفعل تستطيع تجاوز المحنة وتقوم مرة أخرى بعد انتهاء الحرب، لكنها تختار أن تصمد بطرق غير مقبولة اجتماعيًا.
وهم الحب..
القصة الرئيسية للفيلم هي قصة الحب المعقدة التي تشعر بها «سكارليت» تجاه «آشلي» جارها في مزرعتها، والتي ظنت أنه كان يبادلها نفس الحب في بداية شبابها، ورغم سعيه لأن يتزوج من قريبته «ميلاني» فإنها تصر على إبلاغه بحبها، وهو أيضًا من جانبه لم يحسم أمره وأشعرها أنه يكن لها حبًا دفينًا، لكنه لا يستطيع الاعتراف به بسبب الشرف والنبل، فتظل “سكارليت” طوال سنوات عديدة تعاني من ذلك الحب الذي لا يتحقق، فتتزوج من شقيق «ميلاني» فقط لتثير غيرة “آشلي” ويموت سريعًا في الحرب، لتجد نفسها أرملة وهي في مقتبل حياتها وشبابها.
ثم تذهب للعيش مع “ميلاني” في “أتلانتا” على أمل مشاهدة “آشلي” مرة أخرى حين يعود من الحرب، وتظل مع “ميلاني” فقط لتشعر بقربها من “آشلي” الذي دمرت الحرب حياته وأحلامه وإحساسه بالحياة.
في نفس الوقت تلفت نظر رجل آخر هو “ريت بتلر” الذي يتبين أنه أكثر نضجًا وشجاعة من «آشلي»، كما أنه شخصية معقدة ومركبة، فهو يسعى فقط لعمل ما يفيده ولا يهتم بدعاوى الوطنية، وكل تلك الأمور التي يحتفي بها أبناء الطبقات الغنية في الجنوب، كما أنه منبوذ اجتماعيًا من تلك الطبقة التي تعيش وفق عادات وتقاليد صارمة، لأنه له علاقة حب جانحة مع إحدى النساء، التي أصبحت هي أيضًا منبوذة من مجتمعها، واضطرت أن تمتهن مهنة إمتاع الرجال بسبب نبذها اجتماعيًا.
ورغم حياة «ريد بتلر» الصاخبة والمليئة بالمغامرات والمكاسب المادية، يقابل «سكارليت» مصادفة ويشاهدها وهي تعترف بحبها لـ«آشلي»، ثم ينقذها أكثر من مرة في فترة الحرب القاسية، ويجد نفسه مولعًا بها، لكنه ينتظر ويظل يشاهدها وهي تتغير في حياتها الصعبة، وتتحول إلى امرأة قوية وناضجة وممسكة بكل الأمور، حتى إنها تقود حياة الآخرين. فتتزوج مرة أخرى من رجل غني لتنقذ مزرعتها بعد وفاة والدها، ثم يموت زوجها الثاني.
وهنا يجد «بتلر» نفسه مضطرًا للاعتراف لها بحبه وإقناعها بالزواج منه. ورغم أنها طوال حياتها وزواجها من رجلين كانت لا تحب ولا تتمنى سوى «آشلي»، وكانت تصر على أن يكون قريبًا منها دومًا، حتى إنها جعلته يدير مصنعها لتجارة الأخشاب فقط ليبقى قريبًا منها، معتمدة على طيبة «ميلاني» التي كانت تعاملها كأخت قريبة منها.
لكن يحدث التحول بقبولها الزواج من «بتلر»، حيث تنبهر بأمواله وثروته وقوة شخصيته، وتنجب منه طفلة. لكنها مع ذلك تظل تحب «آشلي» طوال سنوات زواجها، ولا تستطيع أبدًا أن تنزع حب «آشلي» من قلبها، مما يؤثر على علاقتها بـ”بتلر” الذي يعرف مدى حبها لـ«آشلي» ويشعر بغيرة قاتلة، لكنه لا يستطيع فعل أي شيء حيال ذلك، إنما يكتفي بأن يظل بجوار المرأة التي يحبها ويشاهدها وهي تتعذب في حب رجل آخر لا تحصل عليه.
ثم يفيض به الكيل فيأخذ طفلته التي أحبها كثيرًا، لأنه كان يرى فيها حبيبته «سكارليت» وهي طفلة، ويدللها كما أراد أن يدلل حبيبته، التي لا تراه ولا تشعر به. ويرحل ويعود ليجد «سكارليت» قد حملت بطفل آخر منه، لكنها مع ذلك لا تظهر أي اشتياق له، فيجن جنونه.
وتتوالى الخسارات فتخسر «سكارليت» طفلها الذي تحمله في أحشائها وتخسر طفلتها “بوني”، وتزداد وتيرة المأساة في قصة الحب المعقدة تلك، فتموت «ميلاني» أيضًا، وتجد «سكارليت» نفسها ممزقة أمام كل تلك المآسي المتلاحقة، لكنها تحاول التقرب من «آشلي» ومواساته، لتكتشف مدى حزنه على «ميلاني»، وتعي لأول مرة منذ سنوات طويلة، تعذبت فيها بحب «آشلي»، أنه يلم يكن يحبها هي وإنما أحب «ميلاني» بكل ما يمتلك من قوة على الحب، مما جعلها تنتبه أخيرًا لحقيقة أنها كانت تحب «بتلر» وتشعر معه بالأمان الذي افتقدته منذ اندلاع الحرب، في ريعان شبابها، وتحملها مسؤولية حياتها وحياة أناس معها.
ذلك الوعي الذي جاء متأخرًا لم ينفعها، لأن «بتلر» كان قد قرر الرحيل بلا عودة، وقرر أن يستفيق من حالة الاستسلام لحب «سكارليت» وهو يشاهدها وهي تحب رجلاً غيره، ويتركها رغم توسلاتها وإلحاحها، لكن الفيلم لا يرتضي بتلك النهاية الموجعة لـ«سكارليت» ولنا.. نحن كمشاهدين نتماهى مع تلك الحكاية العذبة، فيعطينا أملًا بأن تعود «سكارليت» إلى موطنها وتفكر في أن تستعيد حبيبها “بتلر” الذي اكتشفت حبها له متأخرًا.
تطور وتنامي الشخصيات..
تطورت شخصية البطلة «سكارليت» على مدى تلك الحكاية الثرية، فكانت في البداية فتاة مراهقة غنية مرفهة، تستمتع بجاذبيتها الشديدة وشغفها الذي شهد الجميع بأنها تمتلكه، وقدرتها على سحر الرجال من حولها وكانت تستمع بالتفافهم حولها. لكن مع فقدانها لـ«آشلي» واندلاع الحرب ومعاناتها من الفقر والجوع، وشعورها أن هناك أناسًا مقربين لها سيموتون جوعًا، جعلها تتحول، وتخرج قوتها من داخلها وتتصرف كامرأة قوية قائدة محبة، وترعى هؤلاء الناس وتضحي من أجلهم للحفاظ على مزرعة أبيها التي كان يقدرها كثيرًا، كما أظهرت قدرتها على التصرف بدهاء.
وفي معاناتها من الحب تطورت أيضًا، فأصبحت فتاة مثقلة بالألم والمعاناة، تنتظر بصبر وتتلقف أية لفتة اهتمام من حبيبها «آشلي»، في حين تتجاهل حبًا كبيرًا من زوجها «بتلر». كما أثرت المآسي المتكررة فيها فجعلتها أصلب عودًا وأقوى وأكثر إصرارًا على أن تحصل على ما تريد، فأصرت في النهاية على أن تستعيد حبيبها “بتلر” مرة أخرى.
العبيد..
رغم أنه في السنوات اللاحقة تم انتقاد الفيلم على أنه لم يقدم قضية العبيد الأفارقة في المجتمع الأميركي بشكل ملائم، فإنه مع ذلك لم يسئ لهم تمامًا، فقد قدم شخصية المربية الملونة التي ترعى «سكارليت» كابنة لها، وتعاملها «سكارليت» في المقابل كأم ثانية، كما أنها كانت تتعامل بطيبة مع الخدم الملونين حتى إن أحدهم أنقذها من هجوم وقع عليها في منطقة حرجة.
افتتح الفيلم في جورجيا، في 15 ديسمبر 1939. ومنذ ديسمبر 1939 حتى يونيو 1940، كان الفيلم يعرض في دور محدودة، وتذاكره تحجز مسبقًا، قبل أن يعرض بشكل عام في 1941. وأصبح فيما بعد أعلى الأفلام أرباحًا في التاريخ.
صنفه معهد الفيلم الأميركي في 1998 في المرتبة الرابعة في قائمته لأعظم مئة فيلم. واختير لحفظه في سجل الأفلام الوطنية في أميركا حيث أعيد ترميمه بالكامل رقميًا، وصُنفت موسيقى «ماكس شتاينر» للفيلم في 2005 على أنها ثاني أعظم موسيقى تصويرية في التاريخ.