آراء

السينما اللبنانية والحرب

مشاعل عبدالله

يعتقد الأديب اللبناني ميخائيل نعيمة أن الحرب لا تستعر نيرانها في أجواف المدافع، بل في قلوب الناس وأفكارهم أيضًا. هذه المقولة هي مدخل مهم لتفسير لماذا السينما اللبنانية تكاد تكون تعريفًا لما يمكن أن نسميه سينما الحرب، فالحرب الأهلية في لبنان وصراع الميليشيات لا تزال جذورها راسخة في ذهنية صناع السينما هناك. وبمقارنة الأغنية اللبنانية بالسينما، سنجد أن الأغنية اللبنانية أكثر تفاءلًا من السينما، فزكي ناصيف على يقين أن لبنان “راجع راجع يتعمر”، ربما يعود ذلك لأن لبنان كيان أسطوري وسمائي في عيون وديع الصافي فهي “قطعة من سما”؛ أما لبنان في عين مارون بغدادي، فهي أرض “حروب صغيرة” فيلم المخرج مارون بغدادي؛ وهي خاضعة للتقسيمات والحدود كما تبدو في “بيروت الغربية” للمخرج زياد دويري؛ ويبدو كل ما هناك فوضوي بلا بوصلة أو اتجاه مثل “رصاصة طائشة” للمخرج جورج هاشم، هذه الرصاصة تدمر الوطن والإنسان في لبنان فلا يبقى من علاقة بين الإنسان ووطنه سوى “رسالة من زمن المنفى” كما قدمه برهان علوية.

الحرب في لبنان معقدة وشائكة، لأنها حرب على عدة صُعد؛ فهي صراع حدود وسيادة مثل الصراع اللبناني الإسرائيلي، وهي صراع عقائدي كالصراع بين المسلمين والمسيحيين، وصراع هويات كما حدث بين الميليشيات اللبنانية المسيحية والمخيمات الفلسطينية، وأشهر هذه الأحداث مجزرة تل الزعتر.

تل الزعتر ألهمت جورج هاشم فيلم “رصاصة طائشة” الذي يروي حكاية يوم صيفي في حياة شابة لبنانية، هذا اليوم يتحول من يوم عادي إلى يوم تنهار في نهايته حياة “نهى” التي تقوم بدورها نادين لبكي. يبدأ الفيلم بمشهد طائر وقناص تتلوه رمزية دينية متمثلة في علاقة الكنيسة بالشعب، حيث حياة الأفراد وعلاقاتهم مرتبطة بالكنيسة وشخوصها، فخبر زواج نهى يكون عبر منبرها، أيضًا الكنسية هي منبر الوحدة للمجتمع من خلال تمرير جملة تتضمن أن الشعوب تؤمن بإله واحد. لكن يبدو أن هذه الجملة لا تستقر في أذهان الناس، فالعنف خارج أسوار الكنيسة بين الفصائل المختلفة يناقض الفكرة وينسفها. يأخذنا هشام بشكل تدريجي خلال هذا النهار لنتعرف على ماضي نهى، التي كانت على علاقة استمرت لسنوات مع شاب عارضت والدته زواجه من نهى، لأنها تكبره في العمر وحدثت بينهم قطيعة، لكنها قررت أن تقابله هذا النهار قبل ذهابها للعشاء المقام في منزل أخيها «عساف» على شرف خطيبها جان وعائلته. هذه الخطوة من «نهى» لوصل الود هي بمثابة امتحان لمشاعرها حتى تتأكد من مشاعرها قبل إتمام الزواج الذي يبدو في خضم تحضيراته من قياس فستان «العرس» عروسًا تساق للقصاص بدلاً من حياة تعدها بالسعادة والفرح.

تبدو نهى مترددة رغم الجموح والتمرد الذي يسكن روحها، تعبر ملامح نادين، وخصوصًا عينيها عن الكبرياء التي كسرها الحب، لكنها تقاوم لوم الآخرين بعناد طفولي. الرفض للأنثى يفرض إطارًا جديدًا تعيد من خلاله تعريف ذاتها، فنهى مترددة بالذهاب معه رغم أن هذه الفكرة فكرتها، ثم يتضح ترددها أكثر حينما تتوقف عن مواصلة العناق والقبلة الحميمية داخل السيارة في أحد الأحراش رغم قرارها بعدم المضي في مشروع زواجها من جان. يزعزع هدوء المكان صوت طلقات يعقبها جر جثة، ثم يقتاد المسلحون الذين من بينهم امرأة خطيبها كأسير، ترمقهم بصمت من خلف الأشجار وهم يغادرون بذات السيارة التي استقلتها مع حبيبها، فتتحول النزهة العاطفية لذكرى صادمة.

تلتقي نهى في العشاء مع عائلة خطيبها وتكون المفارقة أن المرأة التي كانت تجر الجثة في الصباح هي قريبة لزوجها. يدور حوار بين أفراد العائلة لعرض وجهات النظر المتباينة في الحرب، يزداد الحوار الذي كتب ببراعة وذكاء حدة بين المرأتين، ينتهي العشاء بشكل مأساوي يقود لمواجهة بين نهى وأخيها، الذي يمثل العنف الذكوري بدءًا من اسمه عساف، فهذا الاسم لغويًا يرمز إلى الرجل الذي يقوم بترويض الخيول وحمايتها، وتبدو “نهى” هي الخيل الجامحة التي تظهر تفاصيل شخصيتها من خلال الشخصية المناقضة لها، وهي أختها “ليلى” التي تبدو منصاعة لقيم الأسرة والمجتمع الشرقي. هذه المواجهة تفضي إلى خروج “نهى” من منزل أخيها في الليل، ثم تقوم والدتها باللحاق بها لتصيب أمها رصاصة طائشة تؤدي إلى مقتلها أطلقها رجل على كلب أزعجه نباحه!

تشهد “نهى” موت أمها التي ربما ترمز للبنان وضياعه بسبب رصاص طائش بلا هدف، خصوصًا أن اختزال الوطن بالأم هي ثيمة معروفة ومتكررة في الأدب والشعر.

يرافق مشهد الموت غياب للقمر والضياء، ثم نعود مع جورج للكنيسة في مراسيم الوفاة. هذا العنف المتراكم على نهى من الحبيب وأمه لعائلة خطيبها، ثم أخيها وموت والدتها؛ تكون محصلته انهيار نفسي لنهى، تُقتل روحها الوثابة المتمردة، نراها صامتة بعيون ذابلة وحيدة في دار رعاية تقوم على خدمتها الراهبات، بينما قام أخوها وأختها بالهجرة إلى قبرص. ينتهي الفيلم بمشهد أعتبره من النهايات الساحرة في السينما العربية، فالأخت الراهبة تغلق الباب على نهى فكأن ما بقي في الوطن «لبنان» هم أسرى الرعاية النفسية ورعاتهم، أما البقية فهم خارجها.

الفيلم جدير بالمشاهدة، فالصور والكادرات ساحرة جدًا وقادرة على جعلك تشعر بحرارة الصيف من خلال الملابس ومساحة الضوء، والديكورات والتفاصيل ملائمة جدًا للحقبة الزمنية لدرجة أنك ستعتقد أن الفيلم هو فعلاً وليد تلك الفترة. الحوار ذكي وسلس بدون حشو ولا إطالة، فكل كلمة في الحوار هي بمكانها الصحيح، ويبدو الجهد واضحًا لبناء القصة وتفاصيل الشخصيات. التمثيل رائع، خصوصًا أداء نادين لبكي، لأن الدور يتطلب العديد من التعابير والتغييرات والتحولات النفسية التي رافقت الشخصية منذ البداية حتى الجنون، فكان أداء نادين عذبًا وسلسًا وبسيطًا. نادين من الممثلات التي أتمنى من القائمين في هيئة الأفلام أو مهرجانات السينما السعودية، الاستفادة من تجربتها بتقديم دورات على هامش المهرجانات، فهي سيدة السهل الممتنع.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى