ما وراء جبل “الحضارة”.. هل الإنسان يطير؟!
د. أشرف راجح
شهد مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي العريق في دورته الـ80، عرض الفيلم الروائي الطويل الذي يحمل عنوان “وراء الجبال” للمخرج التونسي محمد بن عطية. وشارك فيلم “وراء الجبال”، في قسم آفاق، ليكون الفيلم العربي الروائي الطويل الوحيد في دورة هذا العام. وتدور أحداث العمل حول رحلة رفيق الذي خرج للتو من السجن بعدما قضى أربع سنوات، ولا توجد أمامه سوى خطة واحدة، وهي أن يصطحب ابنه في رحلة إلى ما وراء الجبال حتى يريه اكتشافه المذهل. نال الفيلم الروائي التونسي وراء الجبال، استقبالًا جماهيريًا حافلًا عند عرضه في مهرجان فينيسيا السينمائي الدولي، بحضور أفراد من طاقم العمل؛ إذ ضجت القاعة بالتصفيق وتفاعل الجمهور بطرح الأسئلة بعد عرض العمل. ونقديًا قوبل باحتفاء، إذ كتب لي مارشال في سكرين دايلي: “التجربة الثالثة لمحمد بن عطية تمثل دليلاً إضافيًا على الحيوية التي تعيشها السينما في شمال إفريقيا حاليًا”. في حين كتب ديفيد كاتز في سينيوربا: “العمل الأكثر ابتكارًا في ثلاثية بن عطية، بل وربما يكون صاحب القيمة الأكبر من بينها”. يُذكر أن المخرج التونسي محمد بن عطية، قدم خلال مشواره السينمائي عددًا من الأفلام القصيرة، قبل أن يطرح فيلمه الروائي الطويل الأول «نحبك هادي» 2016، وفيلم «ولدي» عام 2018، الذي شارك في مهرجان كان السينمائي، في عرضه العالمي الأول في قسم «نصف شهر المخرجين».
بينما نالته سهام النقد العربي حيث رأى الناقد محمد رضا أنه دراما تونسية بنهاية غير واضحة، وأن هناك “بيردمان” عربي ولا أحد يعلم به. ففي فيلم محمد بن عطية الجديد “وراء الجبل” شخصية لرجل يلقي بنفسه من أعلى لأنه يستطيع الطيران. يقول في الفيلم: “الإنسان الأول كان يمشي منحنيًا، لكن أحدهم سار مستقيمًا فهاجموه، ثم أصبحوا جميعًا يسيرون مثله. كذلك الطيران. الإنسان يستطيع الطيران فعلاً”. ربما استطاع بطل “وراء الجبال” الطيران، لكنه على عكس “بيردمان”، في فيلم أليخاندرو غونزالس أيناريتو، لا يعرف كيف يحط، وكلما أراد العودة إلى الأرض سقط وبدا كأنه ميت. إنه كما يعلق لا يمكن اعتباره «سوبرمان» محليًا، بل من الأجدى النظر إليه كنسخة معاصرة وعصابية من عباس بن فرناس. وكذلك رأه الناقد أندرو محسن محاولة غير موفقة للطيران، وأن بعد الانتهاء من مشاهدة هذا الفيلم، سنجد أنفسنا نتساءل: ما الذي يريد المخرج أن يقوله؟ أي فيلم يود صانعه أن يقدم شيئًا ما، وأحيانًا عدة أشياء؟ الفكرة هي في مدى قدرته على إيصال فكرته بالفعل إلى المتلقي. وإنه ربما كانت لدى محمد بن عطية محاولة لصناعة فيلم عن الأشخاص المغايرين أو الذين يحاولون كسر القواعد الصارمة للمجتمع، لكنه لم ينجح في النهاية في صناعة قواعده الخاصة بشكل موفق داخل الفيلم.
يبدأ الفيلم الذي يروي لنا قصة رجل يظن نفسه قادرًا على الطيران، بـ”رفيق” الذي ينعم بحياة الطبقة المتوسطة في تونس العاصمة، مع أسرة صغيرة ووظيفة مكتبية تبدو مريحة، يدخل ثائرًا إلى مكتبه وسط دهشة زملائه حيث يحطم المكتب ثم يقفز من النافذة، حيث يبدو الأمر كما لو كان محاولة انتحار. ينتهي به الأمر إلى السجن. وهناك يلقي رفيق بنفسه مرة أخرى من إحدى النوافذ، ولكن ثمة شيئًا ما خارقًا للطبيعة في سقطاته غير القاتلة. يخرج رفيق من السجن بعد أربع سنوات ليجد نفسه وقد فقد عمله وشقته وزوجته التي أخذت ابنهما معها أيضًا. رفيق يخطف ابنه “ياسين” الذي لا يعرفه من المدرسة، ويصحبه في رحلة بالسيارة إلى منطقة جبلية بعيدة، ويخبره عن قمم الجبال التي ستلتفت له بصورة سحرية لتتابعه أثناء العودة، وهناك يطلب منه أن ينظر إليه وهو يقفز من علوٍّ مرتفع. يقفز ولكن سريعًا ما يعود للأرض مغشيًا عليه. حيث يقوم راعي غنم شاب بحمله على كتفيه وإنقاذه. ليشاركهما بعد ذلك في رحلتهما التي تنقلب إلى مطاردة مع الشرطة. وبالصدفة يقوم رفيق مع راعي الغنم الذي انضم إليه باحتجاز أسرة في منزلهم النائي الذي يريدون قضاء الليل به في المنطقة الجبلية تحت تهديد السلاح حتى الصباح. ولكن داخل البيت ينقلب الفيلم إلى حالة من التوتر البالغ مع نشوب صراع للسيطرة بين القادمين والأسرة المضطربة، ينتهي صباحًا بطعنة يتلقاها رفيق من الزوجة. يطلب رفيق من العائلة إطلاق سراحه فهو لم يتعرّض لأحد بالأذى. وتفعل الزوجة ذلك. يأخذ رفيق ابنه ويحلق به فوق الجبل، وتتابع الزوجة طيرانه في السماء. حينها تصدّق ما ادعاه من قدرة على التحليق. ولكنه يهبط به وهو يلفظ أنفاسه الأخيرة. يعود الصبي «ياسين» وحيدًا في سيارة الشرطة، ولكن أثناء عودته يلحظ قمم الجبال الشماء وقد انحنت بالفعل لتتابعه!
يقول المخرج محمد بن عطية في أحد حواراته إن “الفكرة الأساسية للعمل نابعة من الطيران بعيدًا عن الأوضاع المتأزمة، والتحليق نحو عالم مغاير، فحلم الطيران رغبة تطارد الإنسان منذ القدم”. مؤكدا أن “أفلامي مستوحاة من الواقع التونسي، وتفاصيل الحياة اليومية تمنحني حافزًا للكتابة وصناعة قصة سينمائية”، موضحًا أن “القصة الإنسانية يمكن أن تعاش في أي مكان وزمان”.
وفي جملة كاشفة داخل الأحداث، يفسر رفيق اكتشافه للطيران قائلًا: “إن البشر في البداية كانوا يسيرون على أطرافهم الأربعة، إلى أن جاء شخص وقرر المشي على ساقيه فقط، لاقى مقاومة في البداية قبل أن يقلده الجميع. ربما كان البشر يجيدون الطيران لكن لم يجرب أحد ذلك”. ولكن ما هو أكثر دلالة في هذا الفيلم، الذي أعجب البعض جدًا وأثار حفيظة البعض الآخر لما شابه من غموض كبير وعدم اكتمال لبعض الخطوط وعناصر القصة؛ هو قدرته على تعرية القشرة الزائفة للتمدن الحديث وما أصابت به أرواح البشر ونفوسهم. إن الهاوية العميقة التي تقع خلف هذا الجبل الشاهق من الحضارة الذي بنيناه تنتظر منا القدرة على التفاهم والتراحم حتى نستطيع أن نجتازها محلقين بأجنحة الإنسانية.