نحو تألق سينمائي في شاشاتنا!
غفران قسَّام
«عندما تصور المرئي فأنتَ تصنع التلفزيون.
وعندما تصور اللامرئي فأنت تصنع السينما».
لتلمس العينة!
آخر زيارة | أربعون عامًا وليلة | سيدة البحر | الفيلم |
اجتماعية| ملون | عاطفية| ملون | فانتازيا| أبيض وأسود | نوع الدراما |
عبدالمحسن الضبعان | محمد الهليل | شهد أمين | إخراج |
ممثل شخصيات | ممثل طبيعي | ممثل الذات + ممثل جسدي | تصنيف التمثيل السينمائي |
قراءة في التمثيل السينمائي وَ.. مقاربة!
متى تتصل السينما بالجمهور؟ ومتى ينفصل عنها جمهورها؟ تلك الجدلية التي فتح لها النقاد قلوبهم وعقولهم كي يقرؤوا بها سؤال السينما الكبير: ماذا يوجد في هذه الصورة كي نشاهده؟ وما هو التمثيل السينمائي الجيد؟ بين السؤالين، جذب وتلقٍ لنظرية حمادي كيروم في السينما، ونظرية ماري أوبراين Mary O’ brein في التمثيل السينمائي؛ لعل القراءة بينهما، تتيح مقاربة فاعلة لعينة من الأعمال في السينما السعودية.
هنا في سوليوود، تُقرأ السينما كي تنتقل بالمُشاهد من متفرج يرى الموقف حسيًا وحركيًا، إلى راءٍ مستبصر لموقف بصري وصوتي يستطيع بهما قراءة المستويات الكامنة في اللقطة السينمائية. لهذا، يرى حمادي بهذا الانتقال ما هو إلا تحرير للسينما من الحكي والقص ووصف الأحداث إلى تألق فني وجمالي رحب بعيدًا عن الصناعة الثقافية؛ لأن ما هو سينمائي لا يمكن روايته. وبذلك، فإن غاية السينما هو تحقيق الإمتاع الحسي بإدراك التجربة الجمالية، ذلك الإدراك هو ما فسر به ميرولوبونتي مقولة غودار بقوله: ليس اللامرئي شيئًا ننتظر حضوره، بل موجود أمامنا لكننا لا نعرف كيف ندركه لنراه. وينطلق منهما كيروم، ليرى أن إدراك الرائي للجمال، يكون في مقدرة المُخرج السينمائي أن يقدم ذلك اللامرئي بأسلوب الإمتاع الحسي المتكئ على ركنين مهمين في التجربة الجمالية، هما: الجمال، والجلال. فالهدف الجمالي في السينما سيعكسه أسلوب الإخراج، ويحصل تذوق المشاهدين لذلك الأسلوب بإبلاغه.
ومن تلك المواضيع التي تساعد في إبلاغ المُشاهد رؤية الجمال في شاشة السينما، هو: التمثيل السينمائي. إذ تجد أوبراين موقف التمثيل في السينما لا يشبه التمثيل في المسرح ولا في التلفاز ولا في المسلسلات. وبذلك، تنتقل أيضًا قراءة الدراما في التلفزيون منها إلى السينما نحو منحى يتناسب مع موقف التمثيل في السينما؛ لأن السينما تقارب بين عنصرين: الحركي والحسي ويظهران في حضور الثقل الجمالي للممثل وتركيزه الجسماني. وكلها تؤثر في استيعابنا السينمائي لموضوع الفيلم. فالمُشاهد لا يقرأ الملامح الخارجية للممثل كما في المسرح، وإنما يتناغم مع إيقاع حركته وصورته الخارجية مع سمات المشهد الداخلية من إضاءة وغيرها عبر النبرة الصوتية، وعمق إحساسه بالكلمة، وسلوكه الشعوري واللاشعوري. ومن هنا، يكمن تفسير تلك الحقائق الجسدية بناء على الحركات الحاذقة في عضلات الوجه والفم… وغيرها. فعندما يشاهد المُشاهد فيلمًا، يستطيع قراءة السطح الكامن للمشهد من خلال ما يستبصره في التمثيل السينمائي. ولهذا، تجد أوبراين أهمية حذر الممثل من أن كل ما يعيق عرضه للعاطفة سيظهر بشدة كنمطية سلوك عنده كممثل، وقد يتم الإيحاء بها كجزء من المشهد.
ويلاحظ أن ما يعكس التعالق الحركي والحسي بين الممثل والمَشاهِد تلك الكاميرا، وهي قادرة على أن تنقل أي شخص للتمثيل، شرط أن يوضع في المكان المناسب؛ ليكون مؤثرًا في تكوين الصورة الجمالية في الفيلم.
ولعل أبرز الأعمال التي تشير إلى ذلك فيلم “آخر زيارة” 2019، و”سيدة البحر” 2019، و«أربعون عامًا وليلة» 2021. فللفيلم قوة جاذبة في صناعة حضور أنماطٍ متنوعة من الممثلين السينمائيين شرط مقدرتهم على مجاراة الكاميرا لمنح حضورهم اسمًا يتتبعه المشاهدون ويألفون كل ما يطرحه من مواضيع لتقبلهم نمطه السينمائي، ومن ثم يرغبون في تكراره. ووفقًا لتصنيفات ماري أوبراين للتمثيل السينمائي، يمكن ملاحظة:
ظهور الممثل الذاتي والممثل الجسدي في العمل الفانتازي: “سيدة البحر”. إذ تعكس سمة الممثل الذاتي في هالة البطلة حياة “باسمة حجار” وجاذبيتها الشخصية التي تثير شعورًا يشبه الحزن والخذلان الطفولي اللذين يثيران في المتفرج تلك الرهافة الكامنة فيه، خاصة أن المونتاج يقدم بالأبيض والأسود؛ لإيصال فكرة عن عصر تلك القرية وزمنها خارج تاريخ الإنسانية. فحياة تكبر منبوذة في قرية صيد فقيرة يسودها تقاليد غير عادلة؛ يتعين فيها على كل أسرة أن تعطي طفلة لمخلوقات البحر مقابل أن يستطيع رجال القرية صيد الأسماك البحرية. لكن والد حياة لم يسمح بالتفريط فيها وأنقذها قبل أن يبتلعها البحر. أما سمة الممثل الجسدي في الفيلم، فيقدم طرازًا غير عادي أو نافرًا كجسم الحورية نصفه بشري، والنصف الآخر ممتلئ بحراشف السمك بذيلها الضخم. فهذا التحول يمسخ القدمين البشريتين لطبيعة مخلوقات بحرية يتعذر بها العيش مع البشر! ومما يعكس غرائبية النمط الجسدي في المشهد هو البعد الأسطوري الذي تناغم معه موضوع الفيلم في الإخراج.
ظهور الممثل الطبيعي في العمل الواقعي: “أربعون عامًا وليلة”، فالكاميرا تنقل ليلة عيد الفطر في بيت «أبو ناصر»، يجمع خمسة أشقاء يعيشون موقف حادثٍ لوالدهم ويكشف سرًا دفينًا عنه؛ مما أقلق ليلتهم وهدم سعادتهم بقدوم العيد. إذ قدم المخرج الشخصيات بتكوينات درامية عاطفية، اشتغل عليها الممثلون في لباسهم وماكياجهم وسلوكهم وحواراتهم وكأنها أقرب لطبيعة شخصياتهم. فحين يقدم المُخرج كل شخصية بما يتناسب معها من دور ومكان، سيقارب بها حدود دور الممثل الطبيعي كما لو كان شخصًا عاديًا يلتقيه في الطريق. لهذا، قد يُلامس المُشاهد طبيعة دور «خديجة» وأمانتها في حفظ غرفة أسرار مكتب الأب كجندي مجهول، وكذلك دور الأخوين ناصر وخالد في إدارة الموقف ليلة العيد مع أختهما مودة.
ظهور ممثل الشخصيات في العمل الاجتماعي: “آخر زيارة”، إذ نقلت الكاميرا مشاهد الهدوء الصارخ بين الأب «ناصر» وابنه «وليد» منذ تحركهما من الرياض للديرة ثم عودتهما. فالمُشاهِد يتماهى مع شخصية الابن الذي لم يكن انطوائيًا بقدر ما كان على وعي بما يرغب دون مهارته فيما يرغب أن يفعل ما يريد. وفي المقابل، تصوير أبعاد شخصية الأب ومهارة السباحة التي تعكس معنى رياضة المرء في الحياة ومرونته. فالأب ناصر لم يكن يستطيع السباحة كأخيه الذي استطاعها وعكس أثرها الفيلم في مهارته التربوية مع أولاده ومقدرتهم الحياتية من حضور صلاة الفجر، إلى مجالس الرجال، وأداء مهارات الطبخ، فقيادة السيارة، ولباقة الحديث مع الكبار… وغيرها. أما الابن وليد، فكانت تنقصه جميعها، لكنه تنبه لألم والده في عدم مهارته الأبوية معه. وربما اشترك الابن مع الأب في المدخل النفسي الذي جمع بينهما آخر الفيلم، ثم حوارهما عنه وتآلفهما نهاية. كذلك، مما قدم تمثيل الشخصية في العمل هو إخراج التمازج بين الممثل والصورة بلقطات سينمائية أفقية جمالية تعتني بزوايا الكاميرا وارتفاعها وملاءمتها لجسد الممثل ولباسه وغيره.
عبر تلك الأنواع التصنيفية للتمثيل في السينما، ترى أوبراين فاعلية تلك الأنواع مع مقدرة الممثلين في الخروج عن قيود النصوص المكتوبة في الورق إلى تنفيذ الممثل دوره بالفعل. وهنا، سيقترب المشهد سينمائيًا من المشاهدين بالإمتاع الحسي الجمالي المطلوب. لهذا، حلقت تلك الأعمال الثلاثة وقدمت نفسها في مهرجانات عدة محليًا وعالميًا، ونالت استحقاقها وتقديرها بمختلف مستويات المشاهدين جماهيريًا، ونقادًا، ومحكمين.