فيلم “باربي”.. ضعفٌ فني في عالم وردي

رجا ساير المطيري

استفاد فيلم Barbie كثيرًا من الحملات المُضادة التي سبقت عروضه في صالات السينما، والتي تضمَّنت مخاوف من أن يكون الفيلم منفذًا جديدًا تتسرب من خلاله الأفكار الداعمة لحركة LGBT، وأنه سيستغل شهرة دمية باربي لتمرير الأجندة اليسارية إلى شريحة عمرية خطرة هي شريحة الأطفال المرتبطة وجدانيًا – وتاريخيًا – بهذه الدمية. ومما زاد من تأثير هذه الحملات، قرار بعض الدول منع عرض الفيلم لأنه “يتعارض مع القيم الأخلاقية”، ليرتفع بذلك مستوى الترقُّب، والجدل، وصراع الأفكار وتباينها؛ الأمر الذي انعكس في نهاية المطاف على شباك التذاكر، إذ حقق الفيلم حتى الآن قرابة المليار ونصف مليار دولار حول العالم، وذلك منذ بدء عروضه منتصف يوليو الماضي، أي خلال شهرين فقط.

الفيلم الذي أنتجته شركة وورنر برذرز مع عملاق الألعاب شركة ماتيل المالكة لدمية باربي، استند إلى رؤية المخرجة الأميركية غريتا غيرويغ – التي كتبت السيناريو أيضًا بمشاركة زوجها المخرج نوح بومباخ – ورؤية النجمة مارغوت روبي بوصفها مُنتجةً للفيلم أولاً – بالمشاركة أيضًا مع زوجها المُنتج توم أكيرلي- تجاه الدمية باربي ولحمولاتها الثقافية، وذلك باعتبارها أيقونة أنثوية صارخة، يطغى على عالمها اللون الوردي الذي – وللمفارقة – لا يُعجب مُتطرفي اليسار لأنه لونٌ جندري، تمييزي، إطاري صنعتهُ البرمجة الاجتماعية التي يسعون إلى تدميرها.

تذهب المخرجة غريتا غيرويغ إلى هذا العالم الوردي، الواضح والبسيط، والمحدد المعالم، لتُتابع من هناك حياة الدمية “باربي” – تؤدي دورها مارغوت روبي- وهي تعيش حياة مثالية، ومؤطرة سلفًا، بلا مشاعر، ولا أفكار. ومعها الدُمى الأخرى، التي تحمل نفس الاسم أيضًا، فجميعهن باربي، وجميع الدمى الذكورية الخاضعة تدعى “كين”. كلها تحيا حياة جميلة، وسعيدة، وسط عالم بلاستيكي، أزلي، يتشابه فيه كل شيء، ويدور فيه الزمن إلى الأبد، بلا بداية ولا نهاية، وبلا معنى. لكن شرارة التغيير تبدأ عندما تُراود “باربي” أفكار عن الموت، وتختبر مشاعر جديدة، وتذرف دمعة للمرة الأولى، وتهتم لرائحتها وصحتها وجمالها.

هذا الشعور الإنساني الذي بدأ يغزو حياة باربي، والذي جاء من عالمٍ موازٍ يعيش فيه البشر الحقيقيون، كان الدافع الذي أجبر «باربي» على رحلة عبور بين عالمين؛ عالم وردي تُهيمن عليه الأنثى، المرأة، باربي؛ وعالم بشري واقعي يُسيطر عليه الرجل، الذكر. وهما يُمثلان طرفي الصراع التاريخي بين التقليديين وأنصار النسوية، ويضعهما الفيلم أمام بعضهما البعض، في صراعٍ تقوده “باربي” من جهة، والدمية الذكورية «كين» من جهة أخرى – يؤدي دوره رايان غوسلينغ – ويقابلهما من العالم الواقعي التاجر الرأسمالي – يؤدي دوره ويل فاريل- الذي يقاتل من أجل وأدِ التمرد، وتكريس النظام الاجتماعي الذي يضمن تنمية أرباحه وتعظيمها.

من هذا الصراع تصل مخرجة الفيلم غريتا غيرويغ إلى تسوية لطيفة للمسألة، عبر خلق عالم إنساني يلتقي فيه الرجل بالمرأة على أساس المساواة، لا النبذ، ولا الإقصاء؛ وبمبدأ التكامل، لا هيمنة طرف على آخر. وهذا الحل، أو التسوية، يُعبر عن رؤية غريتا تجاه الحركة النسوية، والعلاقة بالرجل، فهي قبل كل شيء امرأة وأُم وزوجة. كما أن أفلامها التي قدَّمتها مع زوجها نوح بومباخ – كمخرجة وكاتبة سيناريو وممثلة – ومن أهمها: فيلم Lady Bird (2017)، وفيلم Mistress America (2015)، وفيلم Frances Ha (2012)، هي في مجموعها أفلام إنسانية تتبنَّى المنظور النسوي المعتدل الذي ينتصر للمرأة دون إقصاء للرجل.

على مستوى المعنى، يُقدِّم فيلم باربي أفكاره بوضوح، ويقف في منطقة وسط بين المرأة والرجل، ولا يقترب من خطاب LGBT الإشكالي. لكنه، مع ذلك، ومن الناحية الفنية يبدو ضعيفًا إلى حد كبير، وذلك بسبب الخِطابية المباشرة التي يُعبر بها عن هذه الأفكار، والتي تتحول إلى “وعظ” في بعض المشاهد، وحبكة تبسيطية – إذا لم نقل ساذجة – للحدث والصراع والمواقف؛ ما يجعل الفيلم بمثابة التقرير الذي لا يترك أثرًا في النفس، ولا يُحرِّك الشعور تجاه فكرة أو موقف أو حالة إنسانية، مثلما فعلت أفلام أخرى كانت أكثر صدقًا وتأثيرًا وقوةً، في تعبيرها عن الخطاب النسوي مثل: الفيلم الأيقوني Thelma & Louise (1991) للمخرج ريدلي سكوت، وفيلم The Piano (1993) للمخرجة جين كامبيون.

إن تعامل السينما مع الأفكار المرتبطة بالمرأة وهمومها ومشاعرها ورغباتها، بدأ منذ بدء السينما ذاتها، بل هو امتداد لتعامل فن الرواية مع المرأة؛ مع «غادة الكاميليا»، و«مدام بوفاري»، وأعمال جين أوستن، وإيميلي برونتي، ومع الصوت الإبداعي الجديد الذي جاءت به فيرجينيا وولف. ويحمل تاريخ السينما أعمالاً لا تُحصى تناولت المرأة من زوايا مختلفة ومتباينة، فهي المغوية والشيطان كما في أفلام «النوار» كافة، قديمها وجديدها؛ أو المرأة الطيبة التي لا تُريد سوى أن يكون لها صوت كما في فيلم Alice Doesn’t Live Here Anymore (1974) للمخرج مارتن سكورسيزي، وفيلم The Hours (2002) للمخرج ستيفن دالدري؛ أو قوية ومُتحدية وباحثة عن إثبات الوجود كما في فيلمي Places in the Heart (1984) وErin Brockovich (2000) للنجمتين سالي فيلد، وجوليا روبرتس.

وإذا ما وضعنا فيلم “باربي” ضمن هذا السياق التاريخي الطويل، فإنه لا يقدِّم جديدًا على مستوى الفكرة، ولا الأسلوب، ولا قوة التأثير، بل إنه حتى في سياق زمنه الراهن الذي ظهر فيه؛ زمن الألفية الجديدة الذي احتدم فيه الصراع الجندري ووصل ذروته مع طغيان موجة الـLGBT، فإنه أيضًا لا يصمد – فنيًّا – أمام أفلام جديدة أقل شهرة وأكثر تطرفًا في تبنِّي المنظور النسوي – مثل: فيلم Barbarian (2022)، وفيلم Fresh (2022)- والتي ظهرت بشكل أجود فنيًا من خلال فلسفتها للصراع الجندري وإعادة تقديمه في حبكة مثيرة، وجيدة الأسلوب والمعنى، بما يتجاوز ما صنعته غريتا غيرويغ في باربي.

المصدر: سوليوود