الانفتاح الاقتصادي المنقوص أكثر إرباكًا من الانغلاق
حميد الكفائي
عندما قررت الصين أن تنفتح اقتصاديًا على العالم قبل أربع عقود ونصف، فإنها قررت في الوقت نفسه أن تطلق الحرية للناشطين الاقتصاديين جميعا، كي تتكشف المعلومات الحقيقية وتُدرج في المؤشرات الاقتصادية.
والحرية تعني، فيما تعنيه، تداول المعلومات الاقتصادية الحقيقية، الجيدة منها والسيئة، كي تتبناها المؤسسات والشركات، الوطنية والأجنبية على حد سواء، وتضعها ضمن خططها الاقتصادية. فالانفتاح يعني تقديم المعلومات الكاملة للمستثمرين والمتداولين والرأي العام وعموم المعنيين بالاقتصاد.
ربما لم ينتبه الصينيون، الذين شجعتهم الولايات المتحدة وحلفاؤها الغربيون على الانفتاح، وسهَّلت نهضتهم الاقتصادية من أجل توظيف موقفهم المناهض للاتحاد السوفييتي إبان الحرب الباردة، أو لم يكترثوا حينها، إلى أن هذا الانفتاح الصيني على الاقتصاد العالمي، يعني أن المؤشرات الدولية الغربية، وهي أميركية تحديدا، ستكون مؤثرة تأثيرا فاعلا في الاقتصاد الصيني، سلبا أو إيجابا.
وفعلا ساعدت المؤشرات الاقتصادية الغربية على تشجيع المستثمرين الغربيين للانخراط في الاقتصاد الصيني، وكان هذا أمرا إيجابيا أثناء فترات النمو الاقتصادي المفعم بالحيوية والإيجابية، في السنوات الأولى للنهوض الاقتصادي، عندما كان كل قطاع ومجال في الصين يحتاج إلى تطوير، أي أن المؤشرات إيجابية في معظم الأحوال، فكل شيء يتحسن لأن الانطلاق يبدأ من مستويات متدنية.
لكنه الآن، وبعد أن بلغ النمو الاقتصادي والتطور الصيني مستويات رفيعة، أخذ يؤشر إلى السلبيات أيضا، ويعطي نتائج معكوسة إن حصل أي تراجع أو ضعف أو كساد، وهذا ما يحصل في الاقتصادات الغربية عموما، التي تقدم معلومات دقيقة، وتحليلات وتنبؤات مبنية على معطيات مكشوفة وملاحظة، ولا يجرؤ أحد أن يحجبها أو يضلل الرأي العام حولها، حتى وإن تباطأت بعض الحكومات في كشفها، لأن الحجب أو التضليل ليس في صالح الاقتصاد الحر، القائم على حرية السوق، وليس في صالح الشعب أو الحكومة، بل العكس صحيح.
المعلومات الحقيقية تنبِّه المخططين والفاعلين الاقتصاديين إلى وجود خلل، وعند الكشف عنه، سيهب الجميع لمعرفة مسبباته بهدف إصلاحه كي يتواصل التطور الاقتصادي لفائدة الجميع. أما حجب المعلومات فهو تضليل وخداع، مرفوض جملة وتفصيلا، ترفضه الأسواق ولا يستأنس به أحد، وفي العادة لن يلجأ إليه أحد في المجتمعات الحرة لأنه ضرر كلي.
للأسف، في بعض البلدان الحديثة العهد بالانفتاح الاقتصادي وكيفية عمل اقتصاد السوق، يرى القادة والمتنفذون والمديرون، أن بإمكانهم أن يستفيدوا من المؤشرات الاقتصادية والمالية عندما تكون إيجابية، لكنهم يستطيعون أن يحجبوا المعلومات أو يضللوا الأسواق، عندما تؤشر إلى خلل أو تراجع اقتصادي، لذلك تجدهم يسعون إلى اجتراح حلول لم تعد ناجعة، بل تتعارض مع أسس وضوابط عمل الاقتصاد الحر، كي يتجنبوا انكشاف تباطؤ النمو الاقتصادي في بلدانهم أمام الأسواق العالمية، أو نكوص مؤسساتهم الاقتصادية، كالبنوك والشركات، وتدني أدائها وأرباحها.
الاقتصاد العالمي يتجه نحو التباطؤ أو الكساد، وهذا ليس خافيًا على أحد، بل هو ما تسعى إليه الحكومات الغربية، سعيا حثيثًا، عبر رفع أسعار الفائدة وتقليص الانفاق العام، من أجل كبح التضخم الذي تخشاه الاقتصادات الحرة، لأنه يربك الخطط التنموية ويشوه الحسابات المالية، ويخفض قيمة العملة، الأمر الذي يؤثر سلبا على المُدَّخرات والأجور، ويؤدي إلى رفع الأسعار، ويعكر صفو التعاملات التجارية، ويزيد الغموض حول المستقبل.
وعلى الرغم من التفاؤل الذي ساد الأوساط العالمية مطلع العام بتحسن أداء الاقتصاد الصيني، إثر رفع القيود على النشاطات الاقتصادية التي وضعتها السلطات الصينية لتفادي تفشي جائحة كورونا، فإن علامات التباطؤ الاقتصادي على الاقتصاد الصيني بدأت تظهر بوضوح، وأخذ الفاعلون الاقتصاديون الصينيون يتداولونها في وسائل التواصل الاجتماعي الصينية، وهي مختلفة عن وسائل التواصل العالمية المعروفة، كتويتر وفيسبوك وانستغرام.
الصين لديها وسائلها الخاصة بها مثل دوين، (Douyin)، لتبادل مقاطع الفديو، وزياوهونغشو (Xiaohongshu)، للتسوق، وويبو (Weibo) الواسعة الانتشار بين رجال الأعمال والمتداولين بالأسهم والصحفيين والصينين الراغبين في الاطلاع على الشؤون العامة.
ويقدر موقع (مَلتووتر) للرصد والتحليل الألكتروني (meltwater)، أن هناك أكثر من 800 مليون مستخدم صيني لوسائل التواصل الاجتماعي، أي 57.7% من مجموعة السكان، مقارنة مع الولايات المتحدة التي يبلغ عدد مستخدمي وسائل التواصل فيها 300 مليون، أي 78.2% من السكان. أما استخدام الانترنت عبر الهواتف المحمولة، فإن نسبة الصينيين الذين يستخدمونها تقارب 98%، ويتفوقون بذلك على الأمريكيين، الذين تبلغ نسبة المعتمدين على الهواتف المحمولة بينهم 73% من مجموع السكان.
وفي مثل هذه الانفتاح الواسع على وسائل الإعلام والتواصل، فإن المعلومات تنتشر بسرعة وتؤثر على قرارات الناس الاقتصادية، خصوصا الفاعلين منهم. ومع تراجع النمو الاقتصادي الصيني، أخذت السلطات الصينية تتضايق من الآراء السلبية المتداولة، وبدأت تحاول الحد منها والتضييق عليها، من أجل تقليل ما تراه أضرارا، أو انتقاصا من أدائها.
لكن التضييق على المعلومات، هو نفسه يعطي انطباعا سلبيا، ويجعل المراقبين الدوليين ينظرون وراء الأكمة كي يعرفوا ما وراءها. وقد دفعت محاولات إخفاء المعلومات أو حجبها هذه، بنك (غولدمان ساكس) الأميركي، إلى خفض توقعاته للأداء المستقبلي لبعض المؤسسات المالية الصينية، الأمر الذي دفع زبائنه إلى بيع أسهمهم في البنك الصناعي والتجاري الصيني، بسبب القلق المتزايد من تراكم الديون السيئة المستحقة على الحكومات المحلية، الأمر الذي تسبب في خفض أسعار أسهم البنك بعدة نقاط مئوية.
وهذا أمر طبيعي في الاقتصاد الحر، ويحدث باستمرار وتواجهه المؤسسات الاقتصادية والمالية الغربية، المستقلة في العادة عن الحكومة، بإصلاحات جادة ودراسات معمقة كي ترى أسباب التراجع وتعمل على معالجتها والتعامل معها.
لكن المشكلة في الصين، أن المؤسسات المالية، وهي غير مستقلة عن الحكومة، استاءت من الإجراء الذي اتخذه بنك (غولدمان ساكس)، واعتبرت خفض التوقعات الذي قام به، عملا مقصودا، متهمة إياه بإساءة تحليل الوضع الاقتصادي الصيني. بل إن البنك التجاري الصيني ذهب أبعد من هذا، عندما اتهم غولدمان ساكس بأنه يضلل المستثمرين، حسب بيان نشرته وكالة بلومبيرغ للأنباء وتناقلته وسائل إعلام عديدة.
من غير الممكن إطلاقا، أن يقْدِم أي بنك مستقل على مثل هذا الفعل، لأن هدفه الأول هو تقديم المعلومات الدقيقة المحايدة، والمجردة من الأهواء والانحيازات، لزبائنه، لأن أساس عمله يعتمد على الثقة التي يتمتع بها بين زبائنه والمتعاملين معه جميعا! التضليل ليس عملا تتعمده المؤسسات الاقتصادية الرصينة، خصوصا المالية منها، لأنه يضر بسمعتها بل يشل عملها ويزعزع الثقة بها، إضافة إلى أنه ممنوع قانونا.
المشكلة الأخرى، التي ربما أزعجت السلطات الصينية، أن مؤشر شانغهاي المركب، الذي يعكس أداء الشركات والمؤسسات الاقتصادية الصينية، والذي كان قد انتعش في مطلع العام الجاري، إثر رفع القيود المفروضة على النشاطات الاقتصادية لثلاثة أعوام بسبب جائحة كورونا، قد انخفض بنسبة 5%، وأن باقي المؤشرات الاقتصادية الصينية أخذت تؤشر نحو تباطؤ اقتصادي، حسبما ذكرته مجلة الإيكونوميست البريطانية.
النمو في قطاع العقارات المنزلية، مثلا، انخفض بنسبة 33%، مقارنة مع السنة الماضية، بينما أخذ المنتجون يخفضون أسعار السلع الاستهلاكية كي يتخلصوا من المخزونات المتراكمة لديهم، واستقرت الأسعار بل هي آخذة في التدني، ومثل هذا الوضع يعتبر حلما في الاقتصادات الغربية التي تعاني من ارتفاع معدل التضخم، والتي لم تفلح حتى الآن في خفضه إلى معدلات مريحة.
وسائل الاتصالات والتواصل الاجتماعي الصينية هي الأخرى خاضعة للسلطات الرسمية، أو متقيدة بتعليماتها، فكل من يقدم معلومات مخالفة للسياسة الحكومية يُمنع من استخدام وسائل التواصل، وهذا حصل لعدد من المستخدمين المؤثرين الذين عبروا عن آراء مخالفة للتوجهات الرسمية.
القيم الحقيقية للشركات والمؤسسات الصينية، التي تدنت بسبب انخفاض المؤشرات الاقتصادية، يعاد تقييمها الآن، باعتبار أن “قيمتها للمجتمع أعلى من مما تسجله المؤشرات المالية الدولية”. وهذه محاولة لفرض قيم لا تقرها الأسواق الحرة ولن تقبل بها، وهي تخالف الأسس التي يقوم عليها الاقتصاد الحر.
المؤسسات المالية الرسمية هي الأخرى مُنعَت من تقديم المعلومات للزبائن الأجانب، ومثل هذا الإجراء يزيد الوضع تعقيدا، فلا يمكن أي مستثمر أو ناشط اقتصادي، أن يعمل وسط الغموض، لذلك فإن تقديم المعلومات السلبية هو أفضل كثيرا من حجبها، لأن الحجب يوقف النشاط الاقتصادي كليا، فلا يمكن أي مستثمر أو مخطط اقتصادي أن يعمل دون وجود معلومات حقيقية، بينما الوضوح، ينوِّر الناشطين ويدفعهم لاتخاذ القرارات الصحيحة التي من شأنها أن تدفع بعجلة الاقتصاد والتطور إلى الأمام.
الاقتصادات الحرة تتطلب الانفتاح وحرية المعلومات الكاملة، وهذه من أساسيات الاقتصاد الحديث القائم على التنافس واقتناص الفرص الاقتصادية التي توفرها الأسواق المختلفة. أما الاقتصادات المنغلقة، التي صارت نادرة جدا في العالم المعاصر، فلا أحد غير المتنفذين يعرف شيئا عما يجري، لذلك يسود الغموض والشائعات، وتقتصر النشاطات على الجهات الموجِّهة للنشاط الاقتصادي.
تباطؤ الاقتصاد العالمي أمر متوقع في ظل ارتفاع معدل التضخم العالمي، والاقتصاد الصيني ليس استثناء، وسوف يتأثر ويؤثر دون شك، وهذا الأمر سينكشف عاجلا أم آجلا، وانكشافه ضروري للمعنيين، بل هو نافع على الأمدين المتوسط والبعيد، لذلك فإن الأفضل والأكثر نفعا لجميع الفاعلين والناشطين، هو إطلاق المعلومات، بل تشجيع تقديمها لمن يحتاجها، من أجل المساعدة في كشف العلل والمعوقات ثم العمل على إصلاحها، أو على الأقل الحذر من تأثيراتها السلبية.
في المجتمعات المتطورة، يتسابق الجميع، خبراء وناشطين وصحفيين وباحثين وأكاديميين، لتشخيص الخلل وكشف العلل والعيوب، ومهما كانت دوافعهم، سواءٌ شخصية أو مادية أو سياسية، فإن هذا السعي بمجمله نافع، ويخدم المصلحة العامة، والعكس صحيح.