“وداعًا جوليا” السودانى و”إن شاء الله ولد” الأردنى ليسا مجرد فيلمين حصدا جوائز
طارق الشناوي
فى سوق مهرجان «كان» ألاحظ فى السنوات الأخيرة حضورًا فى مكان بارز لاسم «مركز السينما العربية»، متصدرا الأجنحة، كل شىء له ثمن غال، وفى كل عام يرتفع السعر، ولكن هذا المركز بإمكانيات مادية محدودة وبخيال وطموح لا يعرف حدودًا، يتشبث بمكانته وبقدرته على أن يصبح بقعة ضوء جاذبة للعالم وللسينمائى العربى، فهو لا يعبر عن مهرجان يقيمه البلد ولكن كل الأنشطة السينمائية يستطيع أن يقدمها هذا المركز الوليد.
يقوده الباحث السينمائى السورى الهوية المصرى الهوى علاء كركوتى الذى عرفته قبل نحو 20 عاما صحفيا استقصائيا يدقق فى الأرقام، وكان لى تجربة معه أراها ناجحة عام 2003 على صفحات جريدة «المصرى اليوم»، التى كانت تحت الإنشاء، فى العام الذى تولى مسؤوليتها الراحل الكاتب الكبير الصديق مجدى مهنا كرئيس للتحرير، لم يكتمل حلم مجدى إلا أن التجربة تستحق الرصد، توليت وقتها مسؤولية صفحة الفن وكانت لدينا إطلالة رقمية أسبوعية يكتبها ويحللها علاء كركوتى تسعى لقراءة أبعاد الأرقام فى السينما، سواء المصرية والعربية والأجنبية، ومن خلالها يقرأ المستقبل، واستمر كركوتى بضع سنوات يعمل بالصحافة السينمائية مستندا إلى منهجه فى توثيق الأرقام وظلالها حتى تفرغ لحلمه (مركز السينما العربية).
بدأ يتوجه لنشاط لاختيار أفضل الأفلام بمسابقة من النقاد العرب والأجانب واختيار شخصية العام، وتعلن عادة النتائج فى مهرجانى «كان» و«برلين»، وتوجه أيضا للمشاركة فى الإنتاج السينمائى، وفى دورة «كان» الأخيرة شارك فى الفيلمين الأردنى «إن شاء الله ولد» والسودانى «وداعا جوليا» والاثنان يشاركان لأول مرة فى «كان»، الأول فى «أسبوع النقاد» والثانى فى «نظرة ما»، وتوج الفيلمان بأكثر من جائزة وشاهدت علاء أكثر من مرة على المنصة لتقديم الفيلم أو للتتويج بجائزة، بالإضافة لكل ذلك شارك بإنتاج فيلم قصير أردنى.. الباحث السينمائى المدقق المتذوق للفن السابع هو العمق الاستراتيجى لكل ذلك، القرار الإنتاجى يتكئ على رؤية عميقة للأرقام.
العام الماضى أقام حسين فهمى حفل استقبال للإعلان عن موعد مهرجان القاهرة بداخل جناح «مركز السينما العربية»، وهوجم رغم أنه تحرك فى حدود ميزانيته، هذا العام لم نفعلها لا فى المركز ولا فى غيره، لأسباب لها علاقة قطعا بتراجع الإمكانيات المادية، بسبب ما حدث من ارتفاع للدولار، ومعلوماتى أن الدولة لم تقلص الميزانية المرصودة بالجنيه، ولكن المهرجان فى أغلب أنشطته يحيل الجنيه إلى دولار ومن هنا أرى خطورة الموقف وزيادة المعاناة، لاحظت أن أغلب الأجنحة فى الدول المشاركة فى السوق، تحتفظ بمكان ثابت يتحول إلى إعلان عن حضورها، حتى لو لم تحضر الأفلام، فهى تملك رؤية تسويقية للبلد وليس فقط للسينما.
اختيار مكان يرفع اسم البلد سمة عامة، افتقاد مصر لجناح بات لا يثير تساؤل- ولا أقول غضب- أحد، تكراره عدة سنوات متتالية، أفقدنا الدهشة، والأمر يبدو له علاقة مباشرة بالمال، إلا أن هناك حلولا متعددة للأزمة، لا ينبغى تحميل جهة واحدة مثل وزارة الثقافة المسؤولية.
فى التسعينيات وكنت شاهد عيان شاهدت فى «كان» جناحا مصريا بمساحة معتبرة وثابتة، يشارك فى تحمل تكاليفه مهرجان القاهرة مع غرفة صناعة السينما وبدعم مادى من العديد من شركات الإنتاج السينمائى الخاصة مع وزارة السياحة أيضا.
الكاتب الراحل الكبير سعد الدين وهبة كان يشغل موقع رئيس المهرجان ولم يكن يحمل الدولة شيئا، بل ويفتخر أن لديه فائضا مليون جنيه للدورة القادمة يتم تحصيلها من إيرادات أفلام مهرجان العام السابق.
أسباب متعددة واكبت ذلك، والاكتفاء الذاتى الذى جعل المهرجان مؤسسة مستقلة رغم أنه من الناحية القانونية والإدارية تقيمه الدولة، ووزير الثقافة هو المنوط به فى كل دورة تعيين الرئيس الجديد أو التجديد لمن اختاره فى العام السابق.
الفنان الكبير فاروق حسنى وزير الثقافة الأسبق كان حريصا على التجديد لسعد وهبة، منذ أن تولى مسؤولية الوزارة نهاية الثمانينيات وحتى رحيل سعد وهبة عام 1997.
تفاصيل متعددة أدت لتراجع المهرجان عن التواجد فى الشارع الذى يحيل التظاهرة السينمائية إلى مشروع اقتصادى بقدر ما هو ثقافى، انطلق وقتها تعبير «قصة ولا مناظر» الذى التقطه الكاتب الكبير وحيد حامد فى فيلمه «المنسى».
لاحظت أننا استسلمنا لغياب أفلام مهرجان «القاهرة» عن الشارع ولم نجهد أنفسنا بعد فى البحث عن حل، رغم أن كل المهرجانات فى العالم تتباهى بعدد التذاكر المباعة، فهى دليل على وصول تلك الأفلام لمستحقيها وهم الجمهور.
كيف نعيد المهرجان للشارع؟، ليس لدىّ أدنى اعتراض أن المقر الرسمى لمهرجان «القاهرة» هو دار الأوبرا بنحو 6 شاشات عرض، يجب أن نقول بالإضافة إلى وليس بدلا من، نعم مع دار الأوبرا كيف ينتعش المهرجان فى الشارع لكى يستطيع بعد ذلك أن يحقق الهدفين الأدبى، وهو أن المهرجانات فى العالم كله تعقد من أجل الجمهور، والثانى وهو مواز للعرض أن يحقق المهرجان إيرادات تضمن له الاستمرار ذاتيا أو فى الحد الأدنى تخفيف العبء عن الدولة؟، الأزمة التى يواجهها المهرجان تتفاقم وشوف تنعكس بالسلب على كل أنشطته، إذا لم نضع الحلول من الآن.
يجب أن ندرس بالأرقام أيضا ما الذى يجرى وكيف نتغلب على الأزمة؟، الأمر ليس مستحيلا، من خلال تحليل الرقم نستطيع أن نبحث عن حلول.
وجدت فى مهرجان «كان» ملصقات متعددة للفيلمين السودانى والأردنى، تم رصد ميزانية ضخمة للدعاية وهى فى النهاية ستحقق مردودا أدبيًا وماديًا، وتلك كانت واحدة من أفكار علاء كركوتى الدعاية المكثفة مكلفة قطعا ولكنها ستحقق مع الأيام رواجا أدبيا ممكن إحالته إلى أرقام.
تواجدنا كما سبق أن أشرت فى «كان» من ثقب إبرة مع المخرجين الشابين مراد مصطفى وجاد شاهين، ويبقى أن نفكر فى القادم بالأرقام أيضا وكيف نستطيع التغلب والمقاومة والحضور. فعلها الباحث السينمائى علاء كركوتى وتواجد فى السوق بجناح، وفى مهرجان «كان» بأكثر من فيلم حاصدا الجوائز، فلماذا لا نعيد دراسة الأرقام وترتيب الأوراق والأولويات فى مهرجان «القاهرة» ليصبح غيابنا عن «كان» هذا العام، بداية لحضورنا فى كل المهرجانات؟!.