المغتربون والبلدان المستقبلة.. نحو مزيد من الفهم
عمر غازي
شئنا أم أبينا هناك علاقة لا يسودها الوئام، في كثير من الأحيان بين العمالة الوافدة، ومجتمع البلدان المستقبلة، وإن لبست ثوبًا آخر في ظاهرها، وهذا ليس تهويلاً أو ادعاء بقدر ما هو ظاهرة توارثتها عقود الزمان، ولسنا هنا للتتعميم أو المبالغة، فلو لم تكن ظاهرة بالقدر الذي لا يمكن تجاهلها لمن عايشها، لما كنت أكتب ما أكتبه الآن.
ويمكن عزو جزء كبير من أسباب هذه الظاهرة إلى المواقف والانطباعات الأولى سواء كانت مباشرة للمغترب أو من خلال حكايا زملاءه الذين استقبلوه في بلد الاغتراب، فحالة المغترب في بداية اغترابه، أشبه بمرحلة الطفولة، حيث تؤثر فيها الانفعالات والعواطف وتشكل قوة طاغية، فنفسية المغترب في أول فترة اغترابه يغلب عليها طابع الحساسية، لأسباب كثيرة ومتشعبة، ويشكل هذا الاغتراب والمواقف الذي صاحبته طريقة تعامل الوافد في الفترة اللاحقة، وربما يستمر معه أثره لباقي العمر، وإذا كان من المهم جداً أن يعد الشخص نفسه لهذه المرحلة بالاستعداد لها، وإحاطة نفسه بمن يستطيع مساعدته على تجاوز هذه الصعوبات، فإن هذا الأمر ليس متاحًا دائمًا، وفي أغلب دول العالم التي تعتمد على السياحة تجد المواطنين لطفاء مع الغرباء ويحاولون جذب رضاهم وترويج صورة ذهنية جميلة عن بلدانهم، وهذا الشغف الفطري يزداد مع السياح، والمستثمرين، والنجوم غالبًا لأن المواطن في بلد المقصد أو البلد المستقبل يدرك من داخله أن هذا السائح أو المستثمر أو النجم العالمي هو كنز له، وحمله لصورة ذهنية يعني مزيداُ من الأموال لبلده في المستقبل سواء مع تكراره للزيارة، او نقله لصورة إيجابية لسياح آخرين، لكن هذا الشغف نحو إبراز الإيجابيات واللطف قد لا يكون موجوداً بهذا القدر تجاه الموظفين أو العمال الأجانب الوافدين، لأن طبيعة العلاقة تبدو مختلفة، والنظرة بالتالي مختلفة، والتعامل يأخذ مساراً آخر أكثر عملية وأقل عواطفًا، حتى أن نظرة البعض خصوصًا ممن يعانون من البطالة أو من ظروف اقتصادية، تجاه الوافد، ما هو إلا عائق في طريق أحلامهم، وربما اعتقدوا أنهم سبب تعاستهم وفقرهم، على الرغم من أن هذا المواطن ربما لا يقبل العمل في نفس ظروف الوافد، ومن هنا تنشأ علاقة متوترة بين الطرفين، في الوقت الذي ينتظر فيه المغترب نظرة حانية أو كلمة دافئة، تنسيه ولو لبعض الوطن آلام الفراق ولهيب الاغتراب.
وتزداد هذه العلاقة تعقيدا في السنوات الأخيرة مع زيادة استخدام مواقع التواصل الاجتماعي، لتظهر حملات غير منظمة من وقت لآخر تعكس هذه الفجوة الكبيرة، وعلى الرغم من ظهور الكثير من الحملات السلبية إلا أنه في المقابل ظهرت الكثير من المواقف الإيجابية العفوية التي أظهرت جانباً إنسانياً مشرقا من الطرفين على حد سواء، ومن هذه المواقف النبيلة التي لا يمكنني نسيانها هو تفاعل أحد المواطنين السعوديين مع مبادرة قام بها مجموعة من الفلبينيين عام 2017 لتنظيف الواجهة البحرية لكورنيش محافظة الخبر في المنطقة الشرقية، وقام بتصويرهم ونشر الصور على منصة تويتر ليتفاعل مع الآلاف من المواطنين الداعين لتكريمهم حتى تصل هذه الدعوات إلى المستوى الرسمي ويتفاعل معها أمين المنطقة الشرقية المهندس فهد بن محمد الجبير.
ومن المواقف التي حظيت بتفاعل رائع من قبل الرأي العام المحلي في السعودية عبر حسابات التواصل الاجتماعي، قيام أحد المقيمين ممن ولدوا ودرسوا ونشؤا وترعرعوا في المملكة العربية السعودية بكتابة تغريدة على حسابه في تويتير يودع فيها المملكة قاصدا بلدا آخر للهجرة، ومستصحبا في تغريدته المليئة بالحنين والعاطفة ذكريات الطفولة والأحبة والصداقة والوفاء، وهو ما لاقى قبولا وتفاعلا عفويًا كبيراً وحرك الكثير من الشجون والعواطف المتبادلة.
ومن المواقف الأخرى التي أذكرها بكاء اللاعب البرازيلي المحترف بنادي الفتح إلتون جوزيه خلال لقاء تلفزيوني عام 2016م تأثراً لدى حديثه عن المملكة وحبه لها، مؤكدا أنه يتمنى أن يتقاعد بهذه البلاد التي بات يعشقها حتى صار برازيليا عربيًا، وقال إلتون خلال استضافته ببرنامج “ضيف برو” مع اللاعب السابق والمحلل الرياضي محمد عبدالجواد: “المملكة العربية السعودية غيرت حياتي، أنا أحب هذه البلاد، فقد جعلتني قادرا على تقديم شيء أفضل لعائلتي”، قبل أن تغلبه دموعه ليتابع: “لا أستطيع الاستمرار في الحديث بهذا الموضوع، قد جعلني أتأثر حد البكاء”.
وعندما تطالع هذه الموقف والتفاعل معها من الطرفين، تشعر بفيض من الحنان والإيجابية، لا يمكن أن تعتقد معها أن ثمة مشاكل أو إشكاليات من الممكن أن تعكر صفو هذه العلاقة، لكن لحظات التجلي هذه في نظري أشبه “بالتنويم النفسي” الذي يقوم به الأطباء النفسيين لعلاج مرضاهم، وهو في الواقع لا يزيد عن كونه مسكنا أشبه بكبسولات الباندول، الذي يتناولها من يعاني من الآلام دون معرفته لأسبابها، ولكن في حقيقة الأمر فإن العلاج الحقيقي لهذه الظاهرة هو أشبه بعملية “التحليل النفسي”، والتي تقوم على فرضية أن المريض لديه عواطف مكبوتة وأسرار مخبؤه قد لا يعلمها هو نفسه، وتحتاج إلى من يوقظها بالحديث، والنقاش، والاستذكار، لمعرفة أسبابها وظروفها وملابساتها، وتفكيكها، ومتى ما عُرف السبب كان باستطاعتنا الشفاء من العلة، وهو ما نحاول القيام به في هذا الكتاب.
ولعل الدافع نحو توجهي للكتابة هو ما صاحب رصدي لهذه الظاهرة عدد من الأمور في مقدمتها الرغبة في مساعدة البعض من الوافدين ممن لديهم صورة خاطئة أو مشوشة على تصحيحها، وذلك لتوجيه طاقتهم السلبية إلى شيء آخر يفيديهم.
والأهم من ذلك هو المساعدة في الإجابة على هذا السؤال الشائك الحساس لماذا ينعم الوافد الأجنبي في خيرات بلد آخر غير بلده -حتى ولو كانت علاقة تعاقدية نفعية بحتة، اضطرته ظروف بلده إلى أن يرحل عنها ليعيش في البلد المستقبل ولو لبعض الوقت حياة أفضل من الجانب المادي، أو الأمني، أو الاجتماعي- ويكون الغالب عليه النقمة لا شكر النعمة؟ والسخط لا الرضا! وأحيانا الحقد والغيرة والحسد، لا الغبطة والقناعة! هذا السؤال قد يبدو صادما، وقد يبدوا ساذجا، وقد يقلل البعض من أهميته أو يحاولون التهرب منه، وهو على الرغم من بساطته ووضوحه تظل الإجابة عليه بالغة التعقيد، ومتشعبة وذات أبعاد كثيرة، ولا مفر من طرحه ومحاولة الإجابة عليه.
وقد لا تكون هذه المشكلة خاصة بالحالة السعودية التي تشرفت بالتواجد فيها أعواما طويلة لا يسعني أمامها إلا الوفاء والامتنان أبد الدهر، وليست أيضا خاصة بالحالة الخليجية وحدها، لكنني وضعتها كمثال في بعض المواضع التالية لقربي والتصاقي بهذه الحالة، ولذا فالحاجة إلى رصد هذه الظاهرة وتحليلها يبدو ملحاً لأسباب كثيرة قد يأتي ذكر شيء منها في الأسطر اللاحقة، وهذه الظاهرة ربما يجدر بنا التعبير عنها بهذا التعبير القاسي –جحود البلد المستقبل- أو دعنا نتلطف قليلا فنستعير المثل المصري “زي القط ياكل وينكر”.
ومما زاد من إصراري على التعمق في تحليل هذه الظاهرة والغوص في أسبارها أنه صادف عند البدء في كتابتي لهذه الأسطر أن سافرت إلى دولة الإمارات العربية المتحدة، في إجازة قصيرة، وذهبت إلى نزهة برية (سفاري) مع أحد المرشدين المحليين، وكان من ضمن رفقاء النزهة سائحًا هنديًا يعيش في جنوب إفريقيا منذ 22 عاماً واستقر هناك مع عائلته وأولاده الذين حملوا جنسية البلد المستقبل، وأخذنا الحديث عن الدولة المستقبلة له ولأولاده، وكنت أنتظر منه بعض الإطراء أو الإيجابية في حديثه لبلد فتحت له ذراعيها ربع قرن من الزمان مختاراً لا مجبراً عليها، لكنني للأسف تفاجأت بهذا الكم الهائل من الحقن على هذه الدولة التي طالما استضافته ولا زالت، ولا يزال –لحم أكتافه من خيرها- ولا يفكر حتى في يوم ما في العودة للاستقرار في بلده الأم.
لذلك يبقى السؤال قائمًا هل للصورة أبعاد أخرى.. ربما هذا ما يستحق عناء المحاولة للإجابة عليه في مقالات قادمة.