ربما

ربما
عمر غازي
ربما لو اخترت طريقًا مختلفًا صباح ذلك اليوم، لتغيّرت حياتك كلها، وربما لو قلت تلك الكلمة بدلًا من أن تصمت، لنجوت من خسارة أدمت قلبك لسنوات. وربما، فقط ربما، لا شيء من ذلك كان ليُحدث فرقًا.
يعيش الإنسان بين احتمالين، أحدهما حدث، والآخر لم يحدث، لكنه يطارده كظلٍّ مراوغ. نحن نعيش في “ربما” أكثر مما نعيش في الواقع، نتغذى على فرضياتٍ لم تُختبر، ونندم على احتمالات لم تولد. الأمر لا يبدو مجرد استرجاع، بل نمط تفكير متجذّر في أعمق طبقات النفس.
علم النفس يُسمّي هذه الحالة بـ”اجترار الاحتمالات”، وهي إحدى آليات الدماغ التي يحاول بها أن يمنح للألم منطقًا، للندم تسويغًا، وللفشل معنى. دراسة أجرتها جامعة شيكاغو عام 2020 كشفت أن الأشخاص الذين يستخدمون كلمة “ربما” بكثرة في تفسير قراراتهم هم أكثر عرضة للقلق بنسبة 65% من غيرهم، وأنهم يعانون صعوبة في التقدّم، لأنهم عالقون في الماضي الذي لم يحدث.
وربما تقول لنفسك الآن: وما المشكلة في التفكير بهذه الطريقة؟ أليست جزءًا من التأمل والتعلّم؟ الإجابة تحمل مفارقة، فالتفكير بأثر رجعي قد يكون محفّزًا للنمو، إذا ما صاحبه وعي وتعلّم، لكنه يصبح فخًا إذا ما تحوّل إلى أداة جلد للنفس، وسيفًا خفيًّا يُشهره الإنسان على ذاته كلما فشل أو تأخّر أو تعثّر.
في كثير من العلاقات، يقف الناس على أطلال “ربما”. ربما لو لم أُحبّه، لما تأذيت. وربما لو انتظرت أكثر، لكان أفضل. وفي بيئة العمل، تلاحقنا “ربما” في كل فرصة لم تُقتنص، وكل فكرة لم تُنفذ. فتصبح “ربما” حائطًا وهميًا نرتطم به مرارًا، بينما الطريق الوحيد نحو الأمام يتطلب كسر هذا الحائط لا الوقوف أمامه.
العقل البشري يعشق السيطرة، لكنه يكره الغموض، و”ربما” هي منطقة رمادية بلا حدود، لذلك يركن إليها الخائفون، ويبرّر بها العاجزون، ويستغلها من يتقن فنّ التلاعب بالذات. فالذي يتركك دون تفسير يقول لنفسه: ربما أنت من كنت معقّدًا. والذي يفشل في الالتزام يقول: ربما الظروف لم تكن مناسبة. والنتيجة واحدة: لا إجابة، فقط احتمالات عائمة.
السؤال الذي يُربك أكثر: ماذا لو كانت “ربما” مجرد ذريعة؟ ماذا لو كنا نحن من نختبئ خلف الاحتمالات لأننا لا نريد مواجهة الجواب الحقيقي؟ ماذا لو كنا نفضّل الألم المؤجل على الحقيقة المجرّدة؟
وربما، فقط ربما، آن الأوان أن نتوقّف عن استخدام “ربما”.
أو على الأقل، أن نستخدمها بحذر.