“قنديل أم هاشم”.. مشكاة النص وقنديل الاقتباس
رامي عبدالرازق
في بداية الأربعينيات من القرن الماضي صدرت هذه الرواية القصيرة، المكثفة، شديدة البساطة وشديدة التعقيد في الوقت نفسه، الفائرة بالصراع، والقابضة على جمر الجدل المحتدم بين ماردين: العلم ذلك الجبار الساطع القادم دومًا بلا توقف، والخرافة المقدسة التي ترتدي عباءة الدين الواسعة التي لا يحدها بصر ولا يحتويها عقل.
صدرت «قنديل أم هاشم» بقلم يحيى حقي 1905- 1992، فأحدثت جلبة لا يزال صداها يتردد إلى الآن، وصار الدكتور إسماعيل بطل الحكاية الذي اصطدم «رأسه» بالقنديل الجليل في مسجد السيدة زينب بالقاهرة أقرب لصفة منه لنموذج بشري، بحيرته الغامرة وأفكاره التي اشتعلت بوقود الشك حتى تفحم المنطق في باله المنهك.
اختار حقي أن يكون الراوي في القصة هو أحد أحفاد العائلة، صوت طفولي صغير يحكي عن عمه إسماعيل الذي درس حتى تفوق، ثم استطاع أبوه، جد الراوي، أن يكفل له المال اللازم للسفر إلى الخارج من أجل دراسة الطب، حتى إذا عاد كانت ابنة عمه فاطمة –نصف الجميلة، قد أصاب عينيها الرمد، بينما كانت العائلة تحرص على علاجها بقطرات من الزيت «المقدس» لقنديل أم هاشم، اللقب الشعبي الذي يطلقه المصريون على السيدة زينب حفيدة الرسول «صلى الله عليه وسلم»، والمدفونة في ضريح يحمل هالة التقديس في واحدة من أقدم مناطق القاهرة الفاطمية.
بالطبع يبدو اختيار صوت الحفيد للحكي اختيارًا متعددًا وواضح الدلالات؛ أولًا لأنه يحمل خيال الطفولة في قصة تدور حول صراع ما بين مادي وأثيري، ثانيًا لأنه يمثل سؤال المستقبل الذي يملك حيرته الخاصة، التي بلا شك سوف تتصل بشكل مباشر أو غير مباشر مع حيرة الدكتور إسماعيل الذي يمنع أهله من علاج فاطمة بالزيت الملوث، علميًّا، ويجري لها عملية جراحية تفقد البصر على أثرها، وحين يعاودون علاجها بالزيت تشفى من جديد، فيصاب إسماعيل بتلك البلبلة التي سوف تستمر معه طوال حياته ولن يستريح أو يريحنا منها أبدًا.
نفس القنديل ولكن..
في عام 1968 وبعد أكثر من ربع قرن على صدور القصة، يظهر إلى الشاشات الفيلم الذي يحمل نفس عنوانها، والذي سوف يحتل فيما بعد المركز 63 في قائمة أفضل أفلام السينما المصرية، وقد أقر معالجته السينمائية السيناريست صبري موسى، صاحب سيناريو البوسطجي عن رواية يحيى حقي الأشهر بعد القنديل، وإخراج المخرج صاحب التجارب القليلة اللافتة كمال عطية، وبطولة شكري سرحان في دور الدكتور إسماعيل، وسميرة أحمد في دور فاطمة، بالإضافة إلى عبد الوارث عسر، وأمينة رزق في دور عائلة إسماعيل التي تسكن في محيط «السيدة»، والتي تمثل جبهة الإيمان المطلق بنور القنديل وبركة زيته.
تنزل العناوين على لقطة واسعة للمسجد والميدان المحيط به، ثم مع بداية المشاهد نكتشف أن السيناريو قد تحرر من صوت السارد اللصيق وهو الحفيد، الذي يختفي تمامًا عن المعالجة السينمائية، فتأتي الأحداث من عين راوٍ عليم يتحرك مع الشخصيات ويصاحب أفعالها بحرية ودون استئذان.
ثم يضع السيناريو نفسه منذ المشاهد الأولى في الجهة التي سوف ينحاز إليها في الصراع، فيستعرض الطقوس والتفاصيل الخاصة برواد المسجد، لكن يعلو صوت شخصية عابرة لشيخ معمم يقر بأن ما يحدث ليس هو صحيح الدين، ويرفض التبرك بالعتبات وحالة الهذيان الروحي الذي ينتاب طالبي المدد والعون من صاحبة المقام.
وقبل أن يظهر إسماعيل تظهر شخصية درديري، صلاح منصور خادم مملكة الخرافة، وحامي الهرطقات التي تتم تحت سمع وبصر الجميع، لأنها ببساطة محور مصالحه المادية والدنيوية.
أول ما يظهر إسماعيل نراه جالسًا في المسجد تحت القنديل، في يده كتاب، في إرهاصة لامعة لما سوف يكون من مشادة ما بين قنديل العلم «الكتاب»، وقنديل الخرافة المعلق فوق رأسه، عقله.
وفي المشهد الافتتاحي نفسه تظهر نعيمة العاهرة السمراء، تتوسل بصاحبة المقام من أجل توبتها التي لا تأتي.
وعلى عكس القصة، يحدد السيناريو زمن الأحداث عبر سؤال أحد شخصيات الحي لوالد إسماعيل –العطار- هل سمعت خطبة سعد؟ «ويقصد الزعيم سعد زغلول خلال ثورة 1919، وسبب اختيار هذا العام هو كون هذا الحدث السياسي صاحب أيادٍ بيضاء على المدنية الحديثة في مصر وبداية عصر التنوير الليبرالي الحقيقي الذي أفرز قامات الأدب والفكر والثقافة والعلوم حتى الحرب العالمية الثانية 1939».
ثم يأتي أول ظهور لفاطمة وهي تمسك القنديل، لمبة الجاز شحيحة النور، كأن القنديل هو ما يجمع إسماعيل وفاطمة ولكن أي ضوء وأي قنديل؟! وتستخدم فاطمة اللمبة، القنديل لكي ترى ما تفعله لندرك منذ اللحظة الأولى أن عينيها يغشاهما الرمد، ثم يستمر ظهور القنديل معنا خلال الفصل الأول من الفيلم في مواضع كثيرة، بحضور أثيري وبصري واضح ما بين المسجد والشارع حيث نرى المشعلجي يضيء القناديل بصورة يدوية، ثم في البيت والأب يشعل القنديل الكبير في البيت، بينما تمسك يد فاطمة اللمبة لكي تضيء بها لإسماعيل «وقت لم تكن الكهرباء قد دخلت البيوت في مصر».
دلالات توظيف القنديل بصريًّا تبدو مؤثرة ومجازية حد الوضوح. وفي لقطة إشعال الأب للقنديل تبدو الزاوية علوية، وكأنها عين المساء تنظر إليه من فوق المشكاة التي يضيئها! هنا يبدأ الصراع في التشكّل، فهل كل قنديل خرافة؟! أم أن يد الأب التي تضيء توازي المال الذي سوف يدفعه من أجل تعليم إسماعيل؟ ويد فاطمة التي تمسكه تجعله إرهاصة بالتجربة التي سوف يخوضها بسببها بعد عودته؟!
تختلف فاطمة في الفيلم عن القصة، هنا هي جميلة، نظراتها مفعمة بالحب الظاهر والرغبة الكامنة الطيبة، والتي تبدو متبادلة ومتجذرة في علاقتها بإسماعيل، بينما في القصة لم يكن إسماعيل يكن لفاطمة أي مشاعر في البداية، وحتى بدأت المواجهات بين علمه وزيت القنديل.
ويستخدم صناع الفيلم تكنيك النظرة الشخصية pov ليكثّف لنا بدايات شعور فاطمة بالقصور في عينيها، وفي الوقت نفسه إرهاصات بأن إسماعيل الغائم من وجهة نظرها سوف يبتعد لفترة «تغيم» فيها علاقتهما الجميلة.
ويختار السيناريو لفاطمة في تلك المرحلة أفعالًا تحتاج إلى قوة النظر أو صحته، مثل لضم الإبرة لكي يؤكد على إرهاصات الكلل الذي سوف يصيبها.
بينما يبني السيناريو في مهارة علاقة إسماعيل ما قبل السفر، وهو لا يزال طالبًا في الثانوي، مع طقوس التبرك + مظاهر الطب الشعبي المتمثل في شخصية حلاق الصحة، الذي كان أشبه بطبيب الحي غير الرسمي + النذر والعلاقة مع الشيخ قنديل، الذي يقول لإسماعيل ليلة امتحانه إنه نذر لأم هاشم نذرًا يستوجب أن يوفيه حين ينجح إسماعيل في الامتحانات النهائية. كل هذا والقنديل معلق فوق رأس إسماعيل يرعاه ويباركه.
ومع تغير الزمن بين القصة والفيلم يسافر إسماعيل إلى ألمانيا بدلًا من إنجلترا في النص، وبينما لا نرى إسماعيل في القصة سوى من عين الراوي الصغير، نراه في الفيلم صامتًا في معظم مشاهد الفصل الأول وعيناه تستطلعان العالَم، تحدقان في تأمل واندهاش، تطيع وترضى وتنطلق بما في داخله من نشوة نحو الانطلاق، وتشوق لمستقبل مختلف.
وعلى عكس النص ينمي السيناريو علاقة الحب سريعًا بين إسماعيل وفاطمة، ولا يتركه منساقًا وراء خواطره الشهوانية تجاه العاهرة، التي تمثل بالنسبة له الشخصية الأكثر أهمية وجاذبية من فاطمة كليلة العين والجمال.
زمن مستقيم
يفكك السيناريو النص ويعيد تركيبه في شكل خطّي، دون فلاش باك من أي نوع –كما حدث في القصة- وينتقل مباشرة إلى ألمانيا مع إسماعيل، وبينما تظهر ماري الأجنبية كزميلة له في القصة يجعلها السيناريو في الفيلم تلتقي به بالصدفة كأنما هو لقاء قدري غير مرتب، ويعيد تشكيل الشخصية فيجعلها رسامة وليست طبيبة كما القصة، وهي مهنة بصرية قريبة للسينما، وتجعل من شخصية ماري ذات لمسة سحرية تضيفها للطبيعة ذاتها حول إسماعيل في اللوحات، ما يقرب المسافات بينهما ويسهل وقوعه تحت تأثيرها دون ثرثرة حوارية.
ولا يستخدم السيناريو حيلة «بعد مرور سنوات» التي تكتب على الشاشة من أجل تكثيف الزمن بل يجعلنا ندرك مروره عبر تطور لغة إسماعيل نفسه، وهو تعاطٍ مُتقن مع لغة السينما ليس فقط بصريًّا ولكن دراميًّا. ولصبري موسى مدرسته الخاصة في تكثيف الصورة وصياغة جمل بصرية أنيقة وشاعرية وعملية في الوقت نفسه لرواية الأحداث عبر الصورة في المقام الأول، ولهذا تُعد أعماله السينمائية المقتبسة عن روايات حقي نماذج تستحق الدراسة المتأنية في فنون الاقتباس، وانتقال المادة من وسيط لآخرَ، كل بلغته.
تمضي القصة الأصلية في سياق جدلي يحتاج إلى حساسية خاصة في التلقي والتقييم، لا ينحاز النص إلى الخرافة كما يبدو في أحداث وحداته السردية الأخيرة، فتجربة إسماعيل مع فشل العلم في إشفاء عيني فاطمة ونجاح زيت القنديل هي اختبار روحي شديد القسوة، وانفلات إسماعيل وجدانيًّا ليصبح واحدًا من دراويش «السيدة» ليس اقتناعًا بالخرافة بقدر ما هو ضعف أمام فكرة أن كل ما هو مادي لا يستقيم في المطلق دون لمسة روحانية من الإيمان بالقوى التي تعلو قدرات الإنسان على الفهم والاستيعاب، وأن العلم ما دام لم يتمكن من تفسير ودحض كل شيء فليس معنى هذا أن الخرافة انتصرت، ولكن معناه أن ثمة دومًا علمًا أكبر له مبادئه ومنجزه الذي ربما لا يزال خافيًا على التشكُّل في نظرية والخروج بتطبيق.
أما الفيلم فيسير باتجاه صنف آخر من الانحياز، وهو الانحياز ناحية الإرادة الإنسانية والثقة في أن ما هو معلوم يسهل التعامل معه مما هو غيبي وغامض. وهكذا نرى على سبيل المثال حوارًا بين إسماعيل والعاهرة يتناقشان فيه حول مفهوم المصير، فهي تعتمد مبدأ التوبة بالمدد من أم هاشم، وهو يرى أنها تضيع عمرها في انتظار ما يمكن أن يكون قرارًا حُرًّا منها لا دخل لأي قوى أخرى فيه سوى إرادتها. بصريًّا نرى الكادر يضيق عليها ويحاصرها حتى يصبح حوارها مع ظل إسماعيل، أو لِنقُلْ ظلال الشك التي يلقيه على عينيها التي يملؤها الخوف من فقدان الإيمان حين يفضح ضعفها «ضيعتِ سبع سنين من عمرك ولسه زي ما أنتِ».
درديري والفصل الرابع
في القصة يذكر الراوي أن درديري خادم المقام يتخذ كل عام زوجة بكرًا، وفي الفيلم يستغل السيناريو المعلومة، ويجعل درديري يقع تحت طائلة القانون نتيجة تهرُّبه من دفع نفقة لزوجته وادعائه عفاف النفس وصوفية الروح.
تجدر الإشارة إلى أن سيناريو الفيلم يمتد على غير اعتياد البناء التقليدي إلى أربعة فصول وليس ثلاثًا، فالفصل الأول ما قبل السفر، والثاني عقب العودة ومواجهة قوى القنديل، والثالث الفشل في المعركة الأولى وفقدان فاطمة لبصرها وانهيار إسماعيل، أما الرابع فهو استعادة إسماعيل لثقته بنفسه وتجهيزه لمعركة جديدة تنصب على إرادة فاطمة نفسها في الشفاء بعملية جديدة وعلاج مختلف، وهنا تظهر شخصية بهجت زميل إسماعيل الطبيب الذي لا يؤمن سوى بأن عمله ليس رسالة ولا روح ولكنه مهنة تكفل له دخلًا ماديًّا مرتفعًا يضمن له رُقيًّا اقتصاديًّا مستحقًّا. وفي مقابل بهجت نجد حلاق الصحة صاحب النفوذ الطبي الوحيد في الحي الشعبي، الذي يفعل كل ما يمكن أن يحقق من خلاله دخلًا ماديًّا حتى لو خلع ضروس المتأملين بسكب ماء النار عليها.
وتدريجيًّا يحول السيناريو الصراع ما بين العلم والخرافة في النص الأصلي إلى العلم كرسالة والعلم كتجارة، ويجعل كلًّا من درديري وبهجت وحلاق الصحة على استقامة فكرية واجتماعية واحدة، ويذهب في تفسير عمَى فاطمة وفشل إسماعيل معها في الفصل الثاني إلى كونه عمًى هيستيريًّا، مرتبطًا بتحول مشاعر إسماعيل عنها عقب عودته من ألمانيا لامعًا، ما جعلها تنفر منه وترفض الاستجابة لعلاجه، وهو تفسير علمي بعيدًا عن تأثير القنديل الغامض في النص الأصلي، أو ربما هو تفسير سينمائي له، يستحق التأمل.
ويهرب السيناريو بذكاء من جدلية الصراع بين العلم والإيمان، ليدخل بالمشاهد في سياق العلاج بالإيهام كمدخل للنفوس الهشة، والعقول المحدودة، والأنساق النفسية ذات الصلة الروحية المفترضة مع الغيبيات، التي لا يمكن أن تنفصل عنها نتيجة الشقة الحضارية الكبيرة بين الرواسخ والمتغيرات؛ كما نرى في مشاهد استعانة إسماعيل بالزيت إيهامًا من أجل أن يعيد تأهيل نفس فاطمة لتقبل فكرة العملية والعلاج، بعد أن رفضته عيناها كلية حين شعرت أنه لم يعد يحبها.