انتقائية التأثير
أمين صالح
هناك من بين الوسط الثقافي، من يطلب من الفنان أن يكون معلّمًا وواعظًا وناصحًا ومصلحًا. أن يعلّم الناس، ويوجههم إلى الطريق القويم، ويزرع فيهم القيم السليمة والمثُل العليا. في حين أن الفنان لا يستطيع أن يكون كل هذا، لا يستطيع أن يجترح ما تعجز عنه المؤسسات الاجتماعية والدينية والثقافية. هو ليس أكثر علمًا وحكمةً وفطنةً. ليس أذكى من غيره. ولو كان قادرًا على إحداث تغيير في مجتمعه لما ظلت الحروب والجرائم وأشكال الاضطهاد والاستغلال والقمع والفساد قائمة وسائدة منذ قرون، وحتى هذه اللحظة. لو كان الفن قادرًا على تعليم البشر الخير والصلاح، والارتقاء بالمبادئ والأخلاق والسلوك لفعل ذلك منذ قرون.. منذ لحظته الأولى من النشوء والانتشار، ولأصبح الإنسان أكثر مثالية وورعًا ونقاءً.
يمكن للفن، إن كان قويًا ومؤثرًا، أن يحرّك المشاعر، يمدّد الوعي، يكثّف حساسية الفرد جماليًا وفكريًا، يوسّع التجربة الإنسانية، يؤكّد على قيم الخير والحب، يعزّز الاتصال بين الناس.. هذه هي إمكانياته وحدوده. الفن يحرّك المشاعر أكثر مما يحرّك العقول.
وهو انتقائي في تأثيره على الجمهور، إذ لا يمكن أن يؤثر في “كل” متلقٍ بالمستوى ذاته، والدرجة ذاتها. العمل قد يؤثر في أشخاص، أو مجموعة صغيرة، وليس كل الحضور. وحتى عند الأفراد، تتفاوت درجة التأثير من شخص إلى آخر كميًا وكيفيًا. كما أن التأثير يعتمد على مدى انفتاح الآخر، وحساسيته، وذائقته، ومرونته. إذ إن التأثير يتصل بالانفعالات الشخصية وليست الجمعية، كما يتصل بتجربته الشخصية، بأحاسيسه العميقة.
من جهة أخرى، يستحيل معرفة التأثيرات التي يُحدثها العمل عند المتفرجين بسبب الفوارق الثقافية والمعرفية في ما بينهم.. لذلك أنت تحصل على استجابات وردود فعل مختلفة ومتباينة، بل ومتناقضة، من جمهور عمل فني معيّن، مباشرة بعد خروجه من الصالة. ليس هناك قراءة واحدة فقط للعمل الفني. وعندما يقول عشرة نقاد مختلفين عشرة أشياء مختلفة عن فيلمٍ ما، فإنهم جميعًا على حق، لأن الفيلم كائن متعدّد الأشكال.. كما يقول برتولوتشي.
للسينما، التي تملك جماهيرية ضخمة وواسعة، قدرة فريدة وهائلة في التأثير على الجمهور، والسينما التجارية تدرك مدى قوتها وفعاليتها في ممارسة التأثير السلبي على الجمهور، خصوصًا المتفرج الذي يفتقر إلى الوعي، والثقافة العميقة، والقدرات النقدية.. والذي يفضّل أي عمل تجاري تقليدي عادي على أفلام تاركوفسكي أو بيرغمان أو أنتونيوني.
هل الفن ضرورة؟ نعم. هل يحتاج الناس إلى الفن؟ بالتأكيد. ثمة حاجة لمعرفة العالم وفهمه عبر وسائط أخرى غير التربية والتعليم والمدرسة والشارع.. وسائط مثل الأشكال الفنية والأدبية. ما يميّز الفنان أو الأديب عن غيره من الناس هو فقط قدرته على التعبير عن رؤيته للواقع وللأشياء بالصورة أو الكلمة، وليس مستوى ذكائه ونبوغه.