كُتاب الترند العربي

جنة الشياطين.. أو كيف تقتبس فيلمًا من روايتين!

رامي عبد الرازق

في عام 1997 أصدر الكاتب والسيناريست المصري مصطفى ذكري كتابه الثاني “هراء متاهة قوطية”، الذي ضم روايتين قصيرتين إحداهما التي تحمل اسم الكتاب، والثانية هي “ما يعرفه أمين”، وكان قد أنجز قبلهما فيلمه الروائي الأول “عفاريت الأسفلت” 1996 من إخراج الراحل أسامة فوزي “1961-2019″، الذي فاز بجائزة لجنة التحكيم بـ”مهرجان لوكارنو” في العام نفسه.

وفي عام 1999 استطاع الثنائي ذكري/فوزي أن يُنجزا فيلمهما جنة الشياطين واحدًا من أكثر الأفلام المصرية بريقًا وجدلية؛ في الفترة التي كانت السينما المصرية فيها تنتعش في اتجاه السينما التجارية بعد أن بدا أنها اكتشفت الضحك عُنصرَ جذبٍ أساسيًّا بين عامي 96 و98.

ربما لم يكن جنة الشياطين بأجوائه الكابوسية الغريبة وشخصياته التي تجوس في عالم سُفلي غير مرتب أو مفهوم حتى بالنسبة لها، لم يكن له أن يمس ضوؤه الشاشات إلا بحماس الممثل محمود حميدة للقيام بدورَي المنتج والشخصية الرئيسة التي هي عبارة عن جثة رجل ميت.

جنة الشياطين هو فيلم مقتبس من روايتين أدبيتين: أولاهما “مييتان لرجل واحد” للبرازيلي جورج أمادو -التي سبق أن اقتُبست بتصرف ودون ذكر المصدر الأدبي في فيلم المخرج محمد كامل القليوبي “البحر بيضحك ليه” 1993- والثانية عندما استطاع مصطفى ذكري أن يدمجها بشخصيات روايته «ما يعرفه أمين”، والخروج بهذا السيناريو المُلهم، عالي الحساسية، كثيف الطبقات.

ما فعله ذكري

تدور رواية أمادو حول مفهوم وجودي يرتكز على مبدأ بسيط، وهو أن الحياة هي ما يعيشه الإنسان بفرح وشغف وسعادة، وليست إطارًا وظيفيًّا من أسرة ومهنة ومال بلا شبق روحي أو هناء جسدي.

يختار الموظف جواكيم أن يتحول إلى كيناكاس المشرد المخمور الذي يعيش وسط العاهرات وأبناء الليل في مدينة باهيا إلى أن يموت ذات ليلة، وبينما تفرح أسرته المتزمتة بموته كي تنتهي فضائحه التي مست كرامتها الاجتماعية الزائفة يفزع أصحابه، ويُقررون أن يرفضوا موته، فيصطحبون جثمانه في رحلة وداع أخيرة حتى يُدفن في البحر الذي يعتبرونه القبر الوحيد الذي يليق به.

اختار ذكري أن يحول عنوان الرواية في الفيلم إلى جنة الشياطين. الكلمتان متناقضتان على المستوى الديني والاجتماعي الأنيق، الجنة هي مصطلح أزلي له دلالات الخلود، فهي مكافأة الأبدية على حسن السير والسلوك في الحياة وشخصية جواكيم في الرواية التي تتحول إلى منير رسمي في الفيلم –مع ملاحظة الإيقاع الساخر في الاسم المختار بالعربية- قرر أن يترك هذه الجنة الموعودة بعد الموت، لكي يدخل جنة أخرى حاضرة عند أطراف أصابعه، يمكن له أن يتذوق خمرها ويلمس حورها، في الرواية تحول جواكيم إلى كيناكاس هدير الماء وهو اسم له صوت يمكن أن نسمعه، وفي الفيلم اختار البطل لنفسه اسم طبل أي الجلد المشدود على قالب فخاري ليصنع صوتًا عاليًا دون أن يحمل بداخله شيئًا وهو أيضًا اسم صوتي.

أما الطريق لهذه الجنة الدنيوية فهم ثلاثة من أبناء الليل/الشياطين العابثين، حيث أخرج ذكري من روايته “ما يعرفه أمين” شخصيات بوسي ونونة وعادل، وهم أبطال الرواية القصيرة الذين يتحلّقون حول بطلها أمين لكي يدرك أن عزلته الاجتماعية هي موت وجودي سمج، وأن “ما يعرفه” عن العالم ليس هو العالم الحقيقي، وأن خوفه من الحياة هو موت محقق حتى لو كان حيًّا يدب بقدمه على بلاط شقته الفاخرة الهامدة.

مكانان لميتة واحدة

تبدو شخصيات بوسي ونونة وعادل أقرب لانعكاسات غير مباشرة لشخصيات رواية أمادو الطائر الحزين والزنجي مدهون الشعر والعريف ورشيق الحركة، وهم شلة كيناكاس التي تصحبه في رحلته الأخيرة بينما تحتضنه كيتاريا جاحظة العينين التي تصبح «حبّة» الشونة –أي العاهرة- الخصوصية لـ«طبل»، كما كانت كتاريا لهدير الماء. الشونة هي مصطلح شعبوي يطلق على المرأة التي تحمل لذة الرجال بداخلها، وفي الأصل هي صومعة تخزين الحبوب.

بمعنى أن رواية ما يعرفه أمين نفسها كانت أقرب لتدريب على كتابة جنة الشياطين أو ربما نوع من التناص الأدبي مع حكاية أمادو السحرية، ومن ثم أصبح من السهل أن ينتزع الكاتب الشخصيات الثلاث من روايته ويجعلهم يلتقون بطبل في الفيلم المأخوذ عن الرواية الأصلية.

يختار طبل جنة أرضية من الحرية غير المشروطة، ويموت مبتسمًا وهو يدرك أنه لن يرحل أبدًا ما دامت حكاياته باقية تُروى على لسان الشياطين والشون. تمامًا مثل بطل أمادو عندما تخلى عن حياته الرسمية المنيرة بأكملها ثم مات الموتة الأخرى الفيزيقية التي لم تقنع أحدًا ممن حوله فظل على سطح الأرض يمرح مع الجميع كأنه لا يزال هنا.

إن كلًّا من أمادو وذكري يكرهان الموت. الأول يقول إن على كل ميت أن يعنى بدفن نفسه وهي المقولة التي تتحول على لسان الثاني إلى «الحي أبقى من الميت» في اللسان الشعبي المصري.

يقاوم الشياطين والعاهرات موت طبل بالحكايات الكثيرة التي تركها لهم، يذكرون جثته التي يحملونها بينهم بما عاشه كي يعلم أنه لن يموت أبدا، ويُعيد ذكري مع طبل إنتاج بعضٍ من حكاياته صوتًا وصورة، نشاهد طبل وهُو يفقد أسنانه في خناقة تمامًا كما فقدها أول مرة، ونراه والجوهرجي يعيد تركيب أسنانه الحديدية المطلية بالذهب، كأنه يعيد له سيرته الأولى في عالم الشوارع ومقاهي العالم السُّفلي.

لكن ذكري يعارض المكان لدى أمادو، ولا يستسلم له على عدة مستويات، أولها هو انتقال الحكاية من المدينة الساحلية باهيًا إلى القاهرة القديمة، التي لا شاطئ ولا بحر فيها ولكن شوارع ضيقة، تعلوها القباب الأثرية، رمز الدين والفوقية الاجتماعية، بينما يتسرب داخل شرايينها الضيقة وأقبيتها عبث الشياطين ولهوهم الليلي –فشخصيات ذكري الثلاث لا تظهر إلا في الليل على عكس شلة شخصيات أمادو- ربما لأنهم شياطين وربما لأن الليل هو عالم طبل الأثير الذي رحل إليه هاربًا من سجنه “المنير” مثل اسمه الأول.

وثاني المستويات هو انتقال جانب من الأحداث إلى بيت منير رسمي نفسه، ففي الرواية تذهب ابنته وزوجها وأخته وابن عمه إلى الغرفة الحقيرة التي يعيش فيها كيناكاس من أجل غسل سمعة الأسرة وتوضيب كل شيء بعيدًا عن البيت الرسمي، ولكن ابنة منير رسمي في الفيلم تأخذ الجثة إلى البيت الذي نراه بأبوابه المشكّلة من خشب السلسلة أقرب لسجن ضخم بزنزانات عديدة وليس غرفًا عادية ومن هنا تتأصل لدينا القناعة بأسباب هروب منير/طبل من هذه الجدران الباردة.

بل إن عملية الغُسل التي تتم في غرفة كناكاس بالرواية ينقلها ذكري إلى غرفة المكتب الخاص بمنير في شقته، حيث نراه والماء المختلط بالصابون ينزل من جسده فوق زجاج المكتب القابض على صور من تاريخ حياته مع ابنته، وتبدو كل صورة كأنها قصة تغسل الفراق والقطيعة بينهما، وتبدو جثة طبل هنا كأنه يستعيد في تلك اللحظة ذكرياته مع ابنته الحبيبة، وعلى وجهه تلك الابتسامة التي لا تغيب، لرجل لم يعد يرى العدم وإنما أبصر الحقيقة.

في الفيلم نرى ابنته تصحبه من عالمه الليلي عبر جسر طويل معلق كأنه بين العالم الذي كان يعيشه والعالم الذي اختار أن يخلد فيه، وعندما يسترده الشياطين مرة أخرى يعودون به في لقطة صريحة من نفس الجسر، ثم في المشهد الأخير وبدلًا من الرحلة البحرية في الرواية حيث يرون جثة كيناكاس تقفز للماء، يدخل الشياطين بطبل لنفق طويل يبدو كأنه بوابة لجنتهم السفلية، ثم ينقلب الكادر فيصير كل ما هو سفلي علويًّا، في تقابل واضح مع القباب التي كانت ترتفع فوقهم طوال الفيلم ليكتمل المجاز الجدلي الصادم.

الحكاية ضد الموت

كما ينتهي فيلمه الأول عفاريت الأسفلت بحكاية طويلة ثم حالة جنسية براقة بين كل الشخصيات، ينتهي جنة الشياطين داخل النفق نحو الجنة السفلية حيث تحتضن الشونة حُبة جثة طبل وتقول له بشبق حزين «أنا أخدت أني أحكي للزباين عنك» تمامًا كما تقر العاهرة كتاريا لكيناكس قبل فراقهما الأخير، لقد تحول طبل نفسه إلى حكاية يتردد صداها في فراش حُبة العاهرة مع زبائنها، ولهذا فإنه لن يموت أبدًا.
استطاع ذكري رغم ضلوع روايته ما يعرفه أمين في تناص مع أمادو، ورغم إسالته للمكان، وتحويره بعيدًا عن الالتزام بأمكنة الرواية، أن يمس بمشاهده الوتر الأكثر حساسيةً في قلب القصة، وهو أن الموت يمكن مقاومته بالجنس والحكاية لأن كليهما يُجسِّدان مجتمعين ومتداخلين وملتصقين كوجهي عملة ملونة أحد مكونات النواة الأساسية للخلية التي أنتجت البشر والحياة.

في فينال الفيلم نرى تلك الحالة الشبقية بين الشياطين والعاهرات كأنها احتفالية جنسية وثنية تقاوم موت طبل وتحتفي ببقائه بينهم -وهي الحالة نفسها فوق مركب الكابتن في رواية أمادو- ولكن الفرق هنا أننا في سيارة تسير داخل نفق، حيث تنخرط العاهرتان شوقية وحُبة في عناق شبقي محموم مع بوسي ونونة وعادل لتصبح تلك الأيفوريا المفعمة بالحياة في جنتهم السفلية تتويجًا لكل الذين قاوموا الموت بالجنس والحكاية في الرواية الأصلية.

المصدر: سوليوود

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى